مصطفى بيومى
فى مبادرة المرشد العام للإخوان المسلمين، حول المبادئ العامة للإصلاح فى مصر، والموقعة باسم محمد مهدى عاكف، إشارة وحيدة إلى السينما، فبعد حديث موجز فى البند الثانى عشر: «فى المجال الثقافى»، عن الإطار الثقافى العام الذى تؤمن الجماعة به، ينتقل البيان إلى تحديد سبع نقاط للإصلاح الثقافى، والنقطة الأخيرة هى التى تعنينا هنا: «ترشيد دور السينما والمسرح بما يتفق ومبادئ وقيم الإسلام».
ترشيد أم عداء؟
ما الذى تعنيه كلمة «ترشيد» هذه؟ ومن الذى يحدد القواعد الحاكمة لها؟ وكيف يتحقق الاتفاق على مبادئ وقيم الإسلام؟
التساؤلات السابقة جميعا مفتوحة بلا إجابة حاسمة واضحة، لكن الكلمة الفضفاضة المريبة: «ترشيد»، تمثل خطرا داهما وبخاصة عندما يتولى الأمر من لا علاقة لهم بالفن، بل إنهم يكنون له احتقارا لا يخفونه ولا يترددون فى إعلانه والمجاهرة به.
وثمة مبادرة أخرى للقائد الإخوانى المعروف الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، تحمل عنوان: «المفهوم الإسلامى للإصلاح الشامل»، وعلى الرغم من خلو المبادرة من الإشارة إلى المجال الثقافى، فإنها تقدم مبدأ بالغ الأهمية: «الخطاب الإصلاحى الإسلامى خطاب بشرى، وليس خطابا مقدسا؛ وإنما هو اجتهاد بشرى فى فهم نصوص الإسلام، وبالتالى فمن يختلف معنا فهو يختلف مع فهمنا ولا يختلف مع الإسلام.. أرجو أن تكون هذه النقطة شديدة الوضوح للجميع، ولا أدرى ما يمكن أن يقال فى هذه النقطة تحديدا أكثر من ذلك».
مقولة جديرة بكل الاحترام والتقدير، لكن السؤال الجدير بالاهتمام والبحث عن إجابة: هل يعمل الإخوان المسلمون أنفسهم بهذا المبدأ؟!
هل يقدمون اجتهادهم فى فهم الإسلام ولا يحتكرون اليقين والحقيقة المطلقة؟! لقد ذهب الدكتور أبوالفتوح ليهنئ نجيب محفوظ بعيد ميلاده، ديسمبر ,2005 ونشرت «أخبار الأدب» على لسانه، العدد رقم «649» فى 18/12/2005 ما نصه: «فما بال من يريدون ألا يجعلوا للفن والإبداع والسينما وجودا. هذا من الذوق العام، يلينه ويجمله ويظل الخطأ خطأ والسيئ سيئا.. سواء أكان فى الفن أو كان فى الطب».
كلمات الدكتور عبدالمنعم واضحة، لكن السلوك العملى مختلف، والموقف الإخوانى من السينما، ومن الفن والإبداع عموما، لا يتوافق مع الطرح المستنير الذى يقدمه. لاشك أن الزعيم الإخوانى البارز، الموصوف بالاعتدال، قد نضج وتطور، ولذلك أذكره فحسب بما كتبه قبل ما يزيد على ربع قرن، فى باب «بريد الدعوة»، فى مجلة «الدعوة» المعبرة عن جماعة «الإخوان المسلمون».
فى العدد الثانى عشر من المجلة، مايو 1977, وتحت عنوان: «حول فيلم محمد»، كتب عبدالمنعم أبوالفتوح، رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، ما نصه بالحرف الواحد: «إننا نحمل المسئولين فى هذا البلد مسئولية أمام الله عن الاجتراء على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام ونطالبهم بمنع عرض فيلم «محمد رسول الله».. احتراما للشعور الدينى القوى فى مصر وتجنبا لحدوث الفتن.. كما نلفت النظر إلى ما دأب بعض الطائفيين على فعله إثارة للعصبيات والطائفيات.. ومن ذلك نشرهم الصور الفاضحة من جانب والتسجيلات المبهمة لبعض الشخصيات من جانب آخر.. مستغلين ظروف البلاد وأمورها الراهنة».
طالب الطب لم يشاهد الفيلم الذى يدعو إلى منعه، لكنه يمنح نفسه حق المطالبة بالمصادرة ومنع العرض والحيلولة دون الاجتراء على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام! وتتضمن الرسالة تحذيرا، أقرب إلى التهديد، من إثارة الفتن، فضلا عن اللمز الواضح للطائفيين والصور الفاضحة والتسجيلات المبهمة! أليس الطالب الشاب قد احتكر الحقيقة وصادر حق الآخرين وأدانهم دون تحقيق؟! ألم يطالب بمنع الفيلم الذى يراه مسيئا، اعتمادا على ما يقال ويتردد دون بينة أو دليل؟!
لاشك أن الدكتور عبدالمنعم قد نضج وتجاوز ما كتبه فى النصف الثانى من السبعينيات، لكنه يعلم جيدا أن المئات من شباب الإخوان يقفون عند أفكار الأربعينيات، فهل يتحتم على المجتمع المصرى أن ينتظر نضجهم وتطورهم؟! وهل ينسى الدكتور أبوالفتوح ما ترتب على زيارته لنجيب محفوظ، وهو الكاتب المتهم بالعداء للإسلام والمسلمين عند قواعد الإخوان؟! ألم تطله الاتهامات شخصيا، وتحول الدكتور عبدالمنعم من زعيم وقدوة إلى شخص مريب يطالبون بتوبته؟!
لا معنى لترديد أفكار معتدلة يقابلها سلوك متطرف، فكيف إذا كانت الأفكار متوافقة مع السلوك، ويجمعهما مبدأ الرفض الصارم لكل ما يرى الدكتور عبدالمنعم أنه من ضرورات الحضارة وأبجديات العصر الحديث؟!
الإصلاح وإلغاء السينما
الفن، والسينما فى القلب منه، ليس ترفا زائدا يمكن الاستغناء عنه أو التهوين من شأنه.. والقراءة النقدية التحليلية لأعداد مجلة «الدعوة»، الصادرة خلال الفترة من يونيو 1976 إلى أغسطس ,1981 تستهدف التعرف على موقف جماعة الإخوان المسلمين من الفن السينمائى، لا مصادرة لحقهم المطلق فى تبنى ما يشاءون من الأفكار، لكنهم مطالبون فى المقابل بالصراحة والوضوح، فلا يقولون ما لا يفعلون، ولا يدعون غير ما يبطنون، ولا ينتسبون إلى العصر الحديث وهم متشبثون بأفكار العصور الوسطى!
فى العدد السابع عشر، أكتوبر ,1977 تعيد مجلة «الدعوة» نشر البيان الذى أصدره الإخوان المسلمون بعد أيام من قيام حركة الجيش وطرد الملك فى يوليو ,1952 وهو البيان الذى يتضمن «تصورهم للإصلاح المنشود وطرق محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين».
من مطالب الجماعة: «أن تعمل الحكومة على تحريم ما حرم الله وإلغاء مظاهر الحياة التى تخالف ذلك مثل القمار والخمر ودور اللهو والمراقص والأفلام والمجلات المثيرة للغرائز الدنيا». اللافت للنظر أن الأفلام السينمائية «معطوفة» على القمار والخمر، وهما نشاطان لاشك فى تحريمهما وإدانتهما، وتبدو «مرادفا» - بلا تمييز - لدور اللهو والمراقص والمجلات الجنسية المثيرة! لا يشير البيان إلى إنتاج سينمائى بعينه يحتاج إلى الإصلاح والتغيير، فهو يتناول السينما بشكل عام، ولا متسع للجيد أو الردىء، ولا مجال للمقارنة بين الناضج الجاد والتافه السطحى. الموقف إذن ضد الفن السينمائى من حيث المبدأ، فكأنه لا صلاح للأخلاق بمعزل عن «إلغاء» السينما، وكلمة «الإلغاء» هذه واردة بالنص فى البيان الإخوانى.
ليس مستغربا إذن أن نطالع فى كتاب الأستاذ عبدالله إمام: «عبدالناصر والإخوان المسلمون»، حوارا دالا بين المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبى والرئيس جمال عبدالناصر، وفيه بالحرف الواحد: «ورأى المرشد العام أن تصدر الثورة قانونا بعودة الحجاب إلى النساء حتى لا يخرجن سافرات بشكل يخالف الدين، وأن تغلق دور السينما والمسرح»!
ويأتى رد عبدالناصر، موجها خطابه إلى المستشار الهضيبى، على النحو التالى: «بعدين هل بنتك بتروح السينما.. ولا مبترحش؟ بتروح السينما.. طيب إذا كان الراجل فى بيته مش قادر يخلى ابنه أو بنته ما ترحش السينما، طيب عاوزنى أقفل السينمات ليه.. السينمات احنا علينا واجب أن نعمل رقابة عليها وعلى المسارح حتى نحمى الأخلاق».
التوافق كامل بين الحوار المنشور فى كتاب الأستاذ إمام وما جاء فى بيان الإخوان، الذى أعادت مجلة «الدعوة» نشره بعد ربع قرن من صدوره، تأكيدا لاستمرار النهج القديم!
تفاهات وآفات
فى باب «الإفتاء»، العدد رقم «49» فى يونيو 1980، عنوان رئيسى: «حول الفنون المستوردة»، وتشير المقدمة إلى سيل من الأسئلة.. عن حكم الأغانى ودخول السينما ومشاهدة التمثيليات وسماع الموسيقى.
يتصدى الشيخ محمد عبدالله الخطيب للإجابة، وفى السطور الأولى يقول: «هناك إجماع بين المؤرخين على أن اللهو بصوره المختلفة من أخطر الأسباب التى تعرض الأمم للهلاك والزوال». ينبئ المدخل عن تداخل دال بين مفهومى «الفن» و«اللهو»، وهو ما يتأكد عندما ينقل الشيخ عن «الأخ الداعية» سعيد حوى بعض آرائه عن «مخاطر ما يطلق عليه اسم الفن»!
تحظى الموسيقى بالنصيب الأكبر من الهجوم، لأنها عند الداعية «ذروة اللهو»! وينطبق على الفنون كافة ما يسرى عليها: «إن وقت المسلم أثمن وأغلى من أن ينفق فى هذه التفاهات لأن العمر هو الزمن وهو أغلى شىء فى الحياة.. وكل شىء له عوض إلا العمر».
هكذا، وفى بساطة لا ضوابط لها، تتحول الفنون الجميلة الراقية، التى تقاس حضارات الأمم بالتقدم فيها، إلى محض «تفاهات»، لا يليق بالمسلم أن ينفق وقته فيها! وبعد أن ينتهى الاقتباس المطول من «الأخ الداعية» سعيد حوى، يؤكد الشيخ الخطيب فى تعميم يقينى حاسم: «إن ما قرره العلماء من حرمة لهذه الآفات التى نراها وقد ارتبطت تاريخيا وواقعيا بالترف ومجالس الشرب لهى الحقيقة التى لا تقبل الجدال. وفى عصرنا هذا قوى سلطان ما يسمى بالفنون على النفوس».
الفنون «تفاهات» و«آفات»، واقترانها حتمى بالترف ومجالس الشرب! قد يكون الأمر قابلا للمناقشة إذا انصب حديث الشيخ الخطيب على الأغانى الهابطة والأفلام التافهة والتمثيليات الرديئة والموسيقى المبتذلة، لكنه لا يجد فارقا بين إبداع وإبداع، ذلك أن الإنتاج الفنى كله موضوع فى سلة واحدة محرمة، والرأى الذى يتبناه الشيخ «حقيقة» لا تقبل الجدال!
ويأبى الشيخ الخطيب أن ينتهى من فتواه دون أن يتوقف أمام السينما على وجه التحديد، فيقول: «دور للعرض مكدسة بالشباب وغير الشباب فى اختلاط وتبرج، كلها حيل ماكرة لجذب الشباب إلى الباطل، وتدريبهم على الاستخفاف والاستهزاء والتجريح. وكأنما أغلقت كل السبل وسدت كل الأبواب أمام الفنانين والمؤلفين والمخرجين ولم يبق إلا مستوى الحب الرخيص والاستهانة بكل القيم. والواقع يشهد على صدق ما نقول».
ينشغل الشيخ بدور العرض، دون نظر إلى الأفلام المعروضة فيها، ويرفض الاختلاط بين الجنسين، ويرى الأمر كله فى صورة مؤامرة و«حيل ماكرة»، تستهدف جذب الشباب المسلم إلى الباطل!
والمفارقة أنه يأخذ على الفنانين والمؤلفين والمخرجين تقديمهم «مستوى الحب الرخيص»، متناسيا أن فتواه لا تميز بين فيلم وفيلم، هل يفهم من كلماته هذه أن الفن الجيد مستثنى من التحريم؟!
الإجابة بالنفى، فالرجل يعود بعد سطور قليلة ليصدر قرارا نهائيا عن رؤيته لحكم الإسلام فى الفنون التى يسأل السائلون عن شرعيتها: «وقد يعجب بعض الناس من هذا ويقول إن هذه الأشياء من المقومات الكبرى لدى سائر الأمم المتحضرة فى هذا العصر. ونقول: إن الإسلام لم يقف من هذه الأشياء هذا الموقف إلا لأنها مستوردة من حضارة غير حضارته، ونابعة من تصور غير تصوره، وللإسلام منطلق حضارى آخر مستقل بذاته لا يتفق أبدا ومنطلقات هذه الحضارة».
من العبث أن نبحث عن تصور إسلامى متكامل يقدمه الشيخ الخطيب عن هذه «الأشياء»، فليس عنده إلا كلمات إنشائية تدور حول فن يبث أخلاق الإسلام ويحض على الجهاد ويدعو إلى «احترام الصغير وتوقير الكبير»! أى فن هذا أيها الشيخ الجليل؟! إنها مواعظ جافة لا علاقة لها بالفن، ولا تستحق عناء المشاهدة.
روز اليوسف المصرية في 14 فبراير 2008