حوار خاص لـ "أفلامجى..
اعتاد المؤلف والمخرج السينمائى محمد أمين خوض المناطق الشائكة فى كل عمل يقدم عليه، بداية من فيلم ثقافى الذى يمكن إعتباره وثيقة تأريخية مرورا بـ"ليلة سقوط بغداد" المحرض على الثورة والمؤكد على قدرة الفرد على التغيير، و"بنتين من مصر" حين نفذ الصبر وغرقت سفينة الوطن إلى قاع البحر. لا يختلف الحال كثيرا مع محمد أمين وفيلمه الأخير "فبراير الأسود" عندما يعود من جديد للعب على وتر الكوميديا السوداء الذى يجيده ويجده أفضل طريقة لتمرير رسائله العاجة.
فى فيلمك "بنتين مصر" كنت تعتنق فكرة "المطار هو الحل" وأن الهرب هو الوسيلة الوحيدة الباقية أمام المصريين لعيش حياة كريمة، وخلال فيلمك الأخير "فبراير الأسود" لم يختلف الأمر كثيرا حيث يدور الفيلم برمته حول محاولة الأسرة فى الخروج من مصر؟
أعتقد أن نفس الروح لازلت أعتنقها، وبالتأكيد لم يتغير شيئا منذ قدمت فيلم "بنتين من مصر" قبل الثورة والآن فى "فبرايرالأسود"،وأعتقد إذا كان لدى شخص ما ظروف معاكسة تقف حائلا أمام أحلامه وتحديدا إذا كان هذا المواطن يحمل إنجاز إنسانى مهم فالهجرة أفضل طريق أمامه، وأتحدث تحديا عن العلماء فى مختلف المجالات، أمام على مستوى من يعلمون فى الثقافة أمثالنا فلا يمكنهم التفكير فى الهجرة لأن عليهم مسئولية ودور فى مجتماعتهم.
فى "بنتين مصر" كان هناك نوعا مختلفا من الزخم، كان هناك أكثر من طريق للمطار، سواء الشاب الصغير الذى استطاع قراءة الواقع واستنتج أنه لا يمكن أن يعيش فى مجتمع لا يملك أدنى أمل، إلى جانب الهرب من أمور بيروقراطية وهربا من السجن. ولكن أتفق معك أن الرغبة فى ترك الوطن طاغية على العمل وهذا ما أؤمن به.
فى "فبراير الأسود" نجد تيمة رئيسية متكررة خاصة بإمكانية ترك الوطن أو التمسك به وفقا للظروف المحيطة والطبقة الإجتماعية التى ينتمى إليها الفرد والأسرة بالتبعية، كيف يمكن تعريف مصطلح الوطن فى الأساس؟
فى تقديرى الشخصى، الوطن هو إحساسك بالراحة والكرامة فى مكان ما. عندما شعرت الأسرة فى الفيلم أنهم أصبحوا فى التصنيف الثالث ولن يتمكنوا من العيش فقرروا إخراج الوطن من أنفسهم والبحث عن وطن بديل، فالوطن ليس حدود جغرافية أو كمية من الرمال، الوطن هو الظروف التى تعيشها.وعندما تفسد مجموعة العلاقات بين مجموعة البشر، إحساسك بالوطن يقل بشكل مباشر.
مشوار محمد أمين، الساخر بالضرورة، نجد "فيلم ثقافى" ثم "ليلة سقوط بغداد" الغارقين فى الكوميديا السوداء، ومن بعدهم الواقعية المريرة فى "بنتين من مصر"، وتعود من جديد إلى الكوميديا السوداء التى لا ترى أملا أو سبيلا للخلاص؟
"فبراير الأسود" كتبته بعد إندلاع الثورة مباشرة، ولم أكن أعرف وقتها ما ستؤؤل إليه البلاد، وفى ذلك الوقت كان كل يبادر فى طرح رأيه، ورغبت فى التأكيد على رؤيتى فى أهمية البحث العلمى لمستقبل مصر وأن العلماء وأصحاب التفكير المنطقى عليهم أن يكونوا فى مقدمة الصفوف بعد الثورة، ولذلك قدمت الفيلم فى إطار الكوميديا السوداء حتى يستطيع المشاهد التفاعل مع الفيلم وإيجاد نوع من الترفية إلى جانب إيصال الرسالة، أو بالأحرى التحذير الذى أتخوف منه.
وحول عدم وجود بصيص من الأمل أو طريق للخروج من المستنقع، أعتقد إنى لو كتبت الفيلم الآن لخرج بشكل أكثر سوءا، ولم تجد ذرة واحدة أمل، وكنا سنرى المزيد من الإحباط بسبب مرور أكثر من عامين على الثورة والأمور تزداد سوءا يوما بعد آخر. نحن فى الطريق إلى المجهول.
يرتبط العقل الجمعى المصرى الآن عندما نذكر شهر فبراير برحيل الرئيس السابق مبارك، ألم تخشى من ربط المشاهد لعنوان الفيلم "فبراير الأسود" ورحيل مبارك، وكأنك ضد رحيله؟
لم أكن أقصد أي نوع من أنواع الرمزية المتعلق بالنظام السابق ورحيله، كنت أعنى المعنى المباشر المتعلق بالحادثة التى جرت للأسرة فى الفيلم فى شهر فبراير والتى تنطلق كل الأحداث من تلك النقطة. ولم أكن أقصد على الإطلاق أى شيئا من هذا القبيل.
لكنك فى كل الأحوال من اخترت تاريخ الحادثة فى الفيلم؟
أحداث الفيلم كلها تجرى قبل الثورة وبالتالى على المشاهد أن يدرك أن رحيل النظام ليس له علاقة بعنوان الفيلم. والربط بين الأثنين جاء من باب المصادفة البحتة. وإذا فكرنا فى ربط عنوان الفيلم برحيل مبارك فهو أمر غير منطقى على الإطلاقى لأننى كنت من أكثر الراغبين فى تنحى مبارك ونظامه. وان اعلم أن المشاهد قبل أن يدخل القاعة يعتقد أن الفيلم له علاقة بالثورة وبرحيل مبارك وهو أمر خاطئ تماما. ولا يوجد شخص عاقل كان يتمنى استمرا نظام مبارك حتى وإن كره النظام الحالى.
على عكس الفيلم السابق "بنتين من مصر" يمكن أن نشعر أن صوت محمد أمين المؤلف أعلى وأكثر وضوحا من أمين المخرج، سواء على مستوى المعادل البصرى أو الأسلوب الخطابى المباشر فى أكثر من منطقة داخل الفيلم؟
أعتقد ان فيلم "فبراير الأسود" ينتمى إلى مجموعة الأفلام المباشرة، التى تعطيك إحساس أن المؤلف عنده الكثير من الكلام الذى يرغب فى إيصاله إلى المشاهد، وهذا حقيقى، والرسالة مباشرة، وفى نهاية الفيلم تجد المعنى الإجمالى "على بلاطة"، العمل لا يحتاج إلى تركيز كبير من المشاهد لإستيعابه، وطريقة السرد كانت طبيعية، بداية ووسط ونهاية، والمقولة مباشرة وتكاد تكون منذ بداية الفيلم، واعترف انه فيلم مباشر ومن الطبيعى أن تجد شعارت أو عناونين عريضة فى حواره.
لكن هل يرضى هذا طموح وغرور محمد أمين المخرج؟
انا شعرت إنى فى حاجة لصنع فيلم مباشر وسهل حتى يقبل عليه الناس بشكل أكبر، لم أقصد أبد تقديم فيلم صعب، فأنا أشعر أن الذهن الجمعى عند المصريين الآن ملئ ومشغول بالكثير من الأشياء والأخبار والصور، وعندما يصنع المخرج فيلما يجب ان يملك بوصلة حول نوعية الجمهور. وأعتقد أن كل مرحلة لها طريقتها فى التعامل السينمائى أو طريقة السرد. فلا يجب إستفزاز المشاهد بعمل صعب يحتاج لجهد أو رسائل بين السطور. انا ارغب فى التواصل مع الجمهور واتمنى أن تصل رسالتى إلى أكبر قدر ممكن من الناس. ولذلك قررت فيلم سهل ومباشر.
اعتقد إنك بهذا تثير إشكالية سينمائية حول عمل صناع السينما على الحاضر الآنى أم على قدرة الجمهور فى إعادة المشاهدة فى فترات زمنية مختلفة وإستخلاص قدر أكبر من المعرفة وفقا للظروف المحيطة؟
فبراير الأسود يمكن أن تعرضه فى أى وقت وفى كل مكان حتى لو فى مجتمع مختلف، وتجد عبارت صالحة لكل زمان. أما عن صياغة الفيلم فهذا أمر مختلف يتوقف على الظروف المحيطة. فيجب أن اختار إطار فنى صالح للوقت الحاضر. على الفنان أن يكون مرن فنيا حتى لا يفقد جمهور هو فى أمس الحاجة إليه فى الوقت الحالى، وإن لم يشاهد الجمهور الفيلم فكأن المبدع لم يفعل شيئا، وإذا أقدم المخرج على صنع فيلم يرضى غرور النقاد والمثقفين ويحقق حالة إشباع فنى فلن يتجاوز عدد المشاهدين على ألفين شخص. لكن عند المشاهد العادى، عندما يجد تكرار لجملة مثل "لو خدنا بالعلم هنبقى كويسين" يمكن أن تتحول إلى عقيدة وجدانية بداخله.
تقريبا فى كل أفلامك نجد تأكيدا على ضرورة البحث العلمى وأنه السبيل الوحيد للخروج مما تعانيه مصر؟
انا من أكثر المؤمنين بذلك ولذا تجده منعسكا على أفكارى، ولا أعنى بالعلم علماء المعامل فقط، بل كل شخص يأخذ من التفكير العلمى المنطقى منهجا للتفكير، حتى على مستوى الفقه والشريعة، أو الحوار على الفضائيات وهكذا. إذا وجد منهج علمى فى مصر ستجد ارتفاع مستوى الوعى عند الشعب برمته وبناء عليه لن تجد تصويتا فى الإنتخابات بالطرق التى نراها. ولو زاد الوعى كنت ستتأكد أن الناجح فى الإنتخابات هو الإرادة الحقيقة عند الشعب.
فى نهاية فيلمك الذى انتهيت منه قبل نحو عام ونصف، تطرح ثلاث طرق يمثلون مستقبل مصر، دولة العلم والقانون والأمن، فى أى طريق تعتقد أننا نسير إليه الآن؟
اتمنى أن تختار طريق العلم بالضرورة، لكن وفقا لما نراه الآن عكس ذلك تماما فنحن نسير فى طريق الجهل وإنعدام الوعى وإنعدام البصيرة، كل ما يتعارض مع العلم الآن نحن نسير فيه.
0 comments:
إرسال تعليق