٣١‏/٠٨‏/٢٠١٢ 0 comments

حفرة الإرهاب


أحمد بيومى
لا يمكن بحال من الأحوال فك شفرات الجزء الأخير من ثلاثية كريستوفر نولن "صحوة فارس الظلام" بمعزل عن الجزءين السابقين. الفيلم يبدأ بتصوير عملية إرهابية تهدف إلى خطف عالم روسى يقودها الشرير الجديد "بين" صاحب القناع الذى يخفى وجهه ويحيلك إلى عضلاته المفتولة. وبعد نجاح العملية الهوليوودية، يجبرك "بين" على مقارنته بشرير الجزء الثانى الجوكر الذى لعب بطولته هيث ليدجر ونال عنها الأوسكار بعد وفاته، المقارنة ظالمة بكل تأكيد فشخصية الجوكر الذى يهدف إلى تفعيل أجندته الإجرامية الإرهابية الخاصة _الفوضى_ وكشف الجوهر الإنسانى على حقيقته بكل ما حملته الشخصية من عمق يميل إلى الفلسفة مرورا بالجنون، تجد نفسك تعامل شرير الجزء الجديد بقدر كبير من الشفقة وخيبة الأمل. الحديث عن فيلم "صحوة فارس الظلام" يلزم مساحة أكبر كثيرا من هذه التى أملكها، وبالتالى أحاول التركيز فى السطور القادمة على الخلفية التى رسمها الفيلم لشخصية الشرير الإرهابى "بين".
نولان لم يشر فى عمله إلى المنطقة العربية _المسلمة_ بأى شكل من الأشكال، وعلى ذلك حين نرى السجن العميق الذى أتى منه "بين" وهو على شكل حفرة واسعة، بها حبل يساعد من يسعى ويحلم إلى الهروب من هذا الجحيم الأبدى، خارج هذه الحفرة نراها محاطة بمدينة ذات طابع معمارى شرقى بالضرورة. ومن تابع الجزء الأول من الثلاثية يدرك أن شخصية رأس الغول عربية، وكان جزءا من منظمة عالمية هدفها الحفاظ على تقدم الحضارة عن طريق تدمير المدن التى يأكلها الفساد، وبالطبع انتصر الخير فى الجزء الأول، كما ينتصر دائما.
في "صحوة فارس الظلام"، نتابع قصةُ رأس الغول عن طريق قصة بين نفسه وسجن الحفرة، السجن الذي خرج منه "بين" إلى العالم. "الحفرة" التى تقع في الشرق الأوسط الكبير كما قررت إدارة بوش، له الطبيعة ذاتها التي يمكن أن توجد في أفغانستان أو أى بلد مع طراز معماري إسلامي. سجن  الحفرة سجن لا أمل في الخروج منه، ولا نعرف كيفية الدخول إليه إلا في حالة رأس الغول.
من حفرة الجحيم - حرفيا - التي تقع في الشرق الأوسط الكبير يخرج الإرهابيون، يخرج رأس الغول ونسله، ويهجمون على أمريكا. الهجوم الإرهابى على أمريكا يرفع رايات آيديولوجية، ويهجم "بين" على أمريكا لسبب وحيد: أراد رأس الغول تدمير أمريكا وفشل، وكل ما يجب فعله هو إتمام مهمته.
"بين" يميل إلى الأساطير العربية فى مخيلة التاريخ الأوروبى، الذي ورثته أمريكا بالضرورة. العربي وحش عاطفي و"بين"وحش عاطفي أيضا. فهو ليس أكثر من حارس للأميرة، يحبها وتحبه، ويفتديها بحياته، وتحنو عليه في لحظات موته. كأنها قصةُ الجميلة والوحش، مع لمسة مأساوية.
كذلك، يكتسي الأمر طابِع قصص ألف ليلة وليلة - في المخيلة الغربية - من القصة الغريبة التي تفسر حياة طفل رأس الغول في سجن الحفرة، ودخول رأس الغول نفسه في سجن الحفرة. إذ أنه كان مرتزقا عند زعيم محلي. وعشق ابنته، وتزوجها سرا، فألقي في سجن الحُفرة، إلى أن افتدته زوجته وقررت إخراجه. القصة غير منطقية، وتتنافى مع بناء الشخصيات وخلفياتهم الثقافية، لكن العرب وحوش عاطفيون في مخيلة الأمريكان، وفي أرضهم البربرية يمكن أن تحدث هذه القصص التي لا تصدق. ألم تقل ديزني في فيلم "علاء الدين" 1992: "قدمت من أرض بعيدة .. حيث تطوف قوافل الجمال .. حيث يقطعون أذنك .. إذا لم يعجبهم وجهك .. إنه مكان بربري، لكنه وطني!"...
٢٣‏/٠٨‏/٢٠١٢ 0 comments

ابراهيم البطوط والشتا اللى فات


أحمد بيومى
قبل ثلاث سنوات، حين كنت مسئولا عن نادى سينما "نون" التابع للمركز الدولى للتنمية الثقافية، كنت حريصا على دعوة المخرج شديد الإختلاف إبراهيم البطوط. لم يكن بيننا معرفة مسبقة، وعلى ذلك رحب ولبى النداء. كان من المفترض وقتها أن نعرض فيلمه الأخير "عين شمس" لكن خلافات مع الشركة الموزعة حالت دون ذلك، واقترح عرض فيلمه القصير "26 ثانية فى باكستان"، وهو عمل تسجيلى رصد معاناة باكستان بعد زلزال مروع استمر لمدة 26 ثانية، ومن بعده لم تعد الحياة كما كانت. أذكر وقتها الكلمات القصيرة التى قدمته بها، قلت: "من المعروف أن قضاء يوما فى الحرب تماما كقضاء حياة كاملة، وابراهيم البطوط رجلا قضى نصف حياته وسط الحروب، تخيلوا معى كم يبلغ من العمر الآن". كان من المدهش أن يعود إلينا إنسان من وسط الحروب وأهوالها وهو لايزال قادرا على الحب، حب الآخرين وعشق الحياة, ولاتزال عيونه قادرة على رؤية الأشياء جميلة كما كانت، أو كما يتمنى أن تكون.
 "إبراهيم البطوط " قضى ثمانية عشرة عاما بين الحروب وخطوط النار, بين حقول الموت والمقابر الجماعية. اعترف البطوط فى الندوة التى اعقبت عرض الفيلم أن عقله أصبح مليئاً بصور الحرب وبالذكريات المؤلمة, لكنه يرفض أن يتخلى عن الأمل. هل يمكن الأستمرار دون أمل أو نافذة ضوء؟. وحين شاهدت فيلمه الروائى الأول "إيثاكى" لم يدهشنى إهدائه العمل إلى من ذهبوا إلى الحرب ولم يعودوا.
"إيثاكي" الرحلة الطويلة للفارس اليوناني "أوليسيوس" التي كان يجب أن تنتهي في أيام لكنها دامت سنين طويلة قبل أن يعود إلى وطنه وزوجته بعد إنتهاء حرب طروادة. و"إيثاكي " قصيدة الشاعر اليوناني "كونستانتين كافافي" الذي سكن في مدينة الإسكندرية وقال فيها :
"عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكي تمن أن يكون الطريق طويلا. حافلاً بالمغامرات عامرا بالمعرفة. لا تخشي بوزايدون إله البحر الهائج, لن تجد أبدا أيا من هؤلاء في طريقك إن بقى فكرك ساميا, إن مست عاطفة نبيلة روحك وجسدك". وإيثاكي الثالثة هى رحلة المخرج "إبراهيم البطوط " وتجربته الذاتية والتي استوحى منها فكرة فيلمه. ثم مجموعة أخرى من الإيثاكات لشخصيات حقيقية تعرف عليها المؤلف وآخرى ربطت بينه وبينها صداقة.
رحلة جديدة ينتظرها البطوط، يبحر إلى شواطئ فينسيا ليعرض فيلمه الأخير "الشتا اللى فات"، الذى أنجزه فى صمت دون ضجيج وسط كم المهاترات التى نعيشها يوميا فى الشوارع وعلى ساحات الفضائيات. يوما بعد يوم يثبت ابراهيم البطوط أنه فنان يقدس عمله ويرى أن الكاميرا هى الخلاص. ننتظر جميعا رؤية فيلم البطوط الجديد الذى من المؤكد أنه سيكون إضافة هامة إلى رصيده السينمائى والإنسانى.
                             نُشر فى أخبار النجوم 23-8-2012
١٥‏/٠٨‏/٢٠١٢ 0 comments

من يعرف رامى الجابرى؟


أحمد بيومى
أدهشنى كثيرا إقدام مخرج شاب على صناعة فيلم قصير ليخوض به منافسات مسابقة دولية على موقع اليوتيوب، ويختار له موضوع عقوق الأبناء. فيلم "هذا الزمان" الذى اخرجه الشاب الطموح رامى الجابرى استطاع أن يحجز لنفسه مكانا وسط الأفلام العشرة القادمة من أركان الأرض إلى مهرجان فينسيا السينمائى الدولى العريق، ويحصل الفائز النهائى على 500 ألف دولار لصناعة فيلم مبتكر يلعب فيه المخرج الكبير ريدلى سكوت دور المنتج المنفذ.
"هذا الزمان" يدور حول سيدة عجوز يتركها أبنها فى أحد الشوارع مع وعد بالحضور بعد ساعات لإصطحابها لمنزله. تمر الساعات ولا يأتى الأبن، يجلس شاب "عبد الله" بجانبها بعد أن لاحظ جلوسها أمام منزله، يمسك بالورقة التى دسها الأبن فى يد والدته ليتصل به، يجد كلمات الورقة ترجو من قارئها تسليم هذه السيدة إلى أقرب دار للمسنين.
رسالة شديدة الوضوح والقسوة، مليئة بالتفاصيل التى تصيب القلب والعقل فى آن. صورة الحفيد التى تتوق الجدة لرؤيته، حرصها على إحضار قلادة ذهبية لزوجة أبنها، نظرتها الخجولة إلى شاب يبتلع علبة كشرى أثناء الأنتظار، زجاجة المياة التى يقدمها عبد الله للجدة والتى تبتلعها بالكامل، وفى النهاية دموعها المخنوقة عندما تصلها الرسالة الأخيرة من الأبن الجاحد.  
رامى الجابرى مخرج شاب مميز، اهتمامه بالتفاصيل البصرية يدعو للإعجاب والتفاؤل بجيل جديد من المخرجين القادرين على الصمود. قدرته على التحكم بأداء الممثلين والحصول على أفضل ما يمكن يحسب له، واختياره للفنانة عواطف حلمى فى دور الجدة كان أكثر من رائع. يملك رامى إحساسا مرهفا بالموسيقى واستطاع توظيفها بالفيلم بالقدر المناسب لإيصال رسالته. الفكرة التى اختارها عن عقوق الأبناء، فكرة شديدة الإنسانية وبذلك يضمن إنصات العالم فى حال عرض فيلمه فى أي مهرجان دولى كما ينتظر الفيلم الآن. كما يلزم التنويه أن الفيلم من إنتاج الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهو أمر جيد وعلينا جميعنا مناشدة مثل هذه المراكز إلى دعم المزيد والمزيد من الأفكار الشابة الطازجة لطرح أفكار الجميع ومساعدة المواهب فى الوقوف على العتبة الأولى من عتبات التعبير عن إبداعهم.
كتبت منذ شهور مقالا بعنوان "سينما الشارع"، دعوت فيه الجميع إلى الأهتمام بالفن المسقل بشكل عام، وبالسينما المستقلة تحديدا. لازلت شديد الإيمان بسينما الشارع، تلك السينما النقية القادمة من جيل لا يتوقف عن البحث والتنقيب والتجديد، ومناقشة القضية بالقدر الأقصى من المصارحة والمواجهة، وكسر كل الأصنام المحرم الأقتراب منها، وحدها هذه السينما التى نحتاجها الآن. وحدها وما يصاحبها من تقنيات داعمة ناشرة – فاضحة، من يمكنها الصمود أمام طوفان التكفير والإغتيال المعنوى والفكرى الذى نقف على أعتابه الآن.
                                   نُشر فى أخبار النجوم 16-8-2012
١١‏/٠٨‏/٢٠١٢ 0 comments

إلغاء السينما شرط لإصلاح الأخلاق



مصطفى بيومى  
فى مبادرة المرشد العام للإخوان المسلمين، حول المبادئ العامة للإصلاح فى مصر، والموقعة باسم محمد مهدى عاكف، إشارة وحيدة إلى السينما، فبعد حديث موجز فى البند الثانى عشر: «فى المجال الثقافى»، عن الإطار الثقافى العام الذى تؤمن الجماعة به، ينتقل البيان إلى تحديد سبع نقاط للإصلاح الثقافى، والنقطة الأخيرة هى التى تعنينا هنا: «ترشيد دور السينما والمسرح بما يتفق ومبادئ وقيم الإسلام».

ترشيد أم عداء؟
ما الذى تعنيه كلمة «ترشيد» هذه؟ ومن الذى يحدد القواعد الحاكمة لها؟ وكيف يتحقق الاتفاق على مبادئ وقيم الإسلام؟
التساؤلات السابقة جميعا مفتوحة بلا إجابة حاسمة واضحة، لكن الكلمة الفضفاضة المريبة: «ترشيد»، تمثل خطرا داهما وبخاصة عندما يتولى الأمر من لا علاقة لهم بالفن، بل إنهم يكنون له احتقارا لا يخفونه ولا يترددون فى إعلانه والمجاهرة به.
وثمة مبادرة أخرى للقائد الإخوانى المعروف الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، تحمل عنوان: «المفهوم الإسلامى للإصلاح الشامل»، وعلى الرغم من خلو المبادرة من الإشارة إلى المجال الثقافى، فإنها تقدم مبدأ بالغ الأهمية: «الخطاب الإصلاحى الإسلامى خطاب بشرى، وليس خطابا مقدسا؛ وإنما هو اجتهاد بشرى فى فهم نصوص الإسلام، وبالتالى فمن يختلف معنا فهو يختلف مع فهمنا ولا يختلف مع الإسلام.. أرجو أن تكون هذه النقطة شديدة الوضوح للجميع، ولا أدرى ما يمكن أن يقال فى هذه النقطة تحديدا أكثر من ذلك».
مقولة جديرة بكل الاحترام والتقدير، لكن السؤال الجدير بالاهتمام والبحث عن إجابة: هل يعمل الإخوان المسلمون أنفسهم بهذا المبدأ؟!
هل يقدمون اجتهادهم فى فهم الإسلام ولا يحتكرون اليقين والحقيقة المطلقة؟! لقد ذهب الدكتور أبوالفتوح ليهنئ نجيب محفوظ بعيد ميلاده، ديسمبر ,2005 ونشرت «أخبار الأدب» على لسانه، العدد رقم «649» فى 18/12/2005 ما نصه: «فما بال من يريدون ألا يجعلوا للفن والإبداع والسينما وجودا. هذا من الذوق العام، يلينه ويجمله ويظل الخطأ خطأ والسيئ سيئا.. سواء أكان فى الفن أو كان فى الطب».
كلمات الدكتور عبدالمنعم واضحة، لكن السلوك العملى مختلف، والموقف الإخوانى من السينما، ومن الفن والإبداع عموما، لا يتوافق مع الطرح المستنير الذى يقدمه. لاشك أن الزعيم الإخوانى البارز، الموصوف بالاعتدال، قد نضج وتطور، ولذلك أذكره فحسب بما كتبه قبل ما يزيد على ربع قرن، فى باب «بريد الدعوة»، فى مجلة «الدعوة» المعبرة عن جماعة «الإخوان المسلمون».
فى العدد الثانى عشر من المجلة، مايو 1977, وتحت عنوان: «حول فيلم محمد»، كتب عبدالمنعم أبوالفتوح، رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، ما نصه بالحرف الواحد: «إننا نحمل المسئولين فى هذا البلد مسئولية أمام الله عن الاجتراء على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام ونطالبهم بمنع عرض فيلم «محمد رسول الله».. احتراما للشعور الدينى القوى فى مصر وتجنبا لحدوث الفتن.. كما نلفت النظر إلى ما دأب بعض الطائفيين على فعله إثارة للعصبيات والطائفيات.. ومن ذلك نشرهم الصور الفاضحة من جانب والتسجيلات المبهمة لبعض الشخصيات من جانب آخر.. مستغلين ظروف البلاد وأمورها الراهنة».
طالب الطب لم يشاهد الفيلم الذى يدعو إلى منعه، لكنه يمنح نفسه حق المطالبة بالمصادرة ومنع العرض والحيلولة دون الاجتراء على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام! وتتضمن الرسالة تحذيرا، أقرب إلى التهديد، من إثارة الفتن، فضلا عن اللمز الواضح للطائفيين والصور الفاضحة والتسجيلات المبهمة! أليس الطالب الشاب قد احتكر الحقيقة وصادر حق الآخرين وأدانهم دون تحقيق؟! ألم يطالب بمنع الفيلم الذى يراه مسيئا، اعتمادا على ما يقال ويتردد دون بينة أو دليل؟!
لاشك أن الدكتور عبدالمنعم قد نضج وتجاوز ما كتبه فى النصف الثانى من السبعينيات، لكنه يعلم جيدا أن المئات من شباب الإخوان يقفون عند أفكار الأربعينيات، فهل يتحتم على المجتمع المصرى أن ينتظر نضجهم وتطورهم؟! وهل ينسى الدكتور أبوالفتوح ما ترتب على زيارته لنجيب محفوظ، وهو الكاتب المتهم بالعداء للإسلام والمسلمين عند قواعد الإخوان؟! ألم تطله الاتهامات شخصيا، وتحول الدكتور عبدالمنعم من زعيم وقدوة إلى شخص مريب يطالبون بتوبته؟!
لا معنى لترديد أفكار معتدلة يقابلها سلوك متطرف، فكيف إذا كانت الأفكار متوافقة مع السلوك، ويجمعهما مبدأ الرفض الصارم لكل ما يرى الدكتور عبدالمنعم أنه من ضرورات الحضارة وأبجديات العصر الحديث؟! 

الإصلاح وإلغاء السينما
الفن، والسينما فى القلب منه، ليس ترفا زائدا يمكن الاستغناء عنه أو التهوين من شأنه.. والقراءة النقدية التحليلية لأعداد مجلة «الدعوة»، الصادرة خلال الفترة من يونيو 1976 إلى أغسطس ,1981 تستهدف التعرف على موقف جماعة الإخوان المسلمين من الفن السينمائى، لا مصادرة لحقهم المطلق فى تبنى ما يشاءون من الأفكار، لكنهم مطالبون فى المقابل بالصراحة والوضوح، فلا يقولون ما لا يفعلون، ولا يدعون غير ما يبطنون، ولا ينتسبون إلى العصر الحديث وهم متشبثون بأفكار العصور الوسطى!
فى العدد السابع عشر، أكتوبر ,1977 تعيد مجلة «الدعوة» نشر البيان الذى أصدره الإخوان المسلمون بعد أيام من قيام حركة الجيش وطرد الملك فى يوليو ,1952 وهو البيان الذى يتضمن «تصورهم للإصلاح المنشود وطرق محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين».
من مطالب الجماعة: «أن تعمل الحكومة على تحريم ما حرم الله وإلغاء مظاهر الحياة التى تخالف ذلك مثل القمار والخمر ودور اللهو والمراقص والأفلام والمجلات المثيرة للغرائز الدنيا». اللافت للنظر أن الأفلام السينمائية «معطوفة» على القمار والخمر، وهما نشاطان لاشك فى تحريمهما وإدانتهما، وتبدو «مرادفا» - بلا تمييز - لدور اللهو والمراقص والمجلات الجنسية المثيرة! لا يشير البيان إلى إنتاج سينمائى بعينه يحتاج إلى الإصلاح والتغيير، فهو يتناول السينما بشكل عام، ولا متسع للجيد أو الردىء، ولا مجال للمقارنة بين الناضج الجاد والتافه السطحى. الموقف إذن ضد الفن السينمائى من حيث المبدأ، فكأنه لا صلاح للأخلاق بمعزل عن «إلغاء» السينما، وكلمة «الإلغاء» هذه واردة بالنص فى البيان الإخوانى.
ليس مستغربا إذن أن نطالع فى كتاب الأستاذ عبدالله إمام: «عبدالناصر والإخوان المسلمون»، حوارا دالا بين المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبى والرئيس جمال عبدالناصر، وفيه بالحرف الواحد: «ورأى المرشد العام أن تصدر الثورة قانونا بعودة الحجاب إلى النساء حتى لا يخرجن سافرات بشكل يخالف الدين، وأن تغلق دور السينما والمسرح»!
ويأتى رد عبدالناصر، موجها خطابه إلى المستشار الهضيبى، على النحو التالى: «بعدين هل بنتك بتروح السينما.. ولا مبترحش؟ بتروح السينما.. طيب إذا كان الراجل فى بيته مش قادر يخلى ابنه أو بنته ما ترحش السينما، طيب عاوزنى أقفل السينمات ليه.. السينمات احنا علينا واجب أن نعمل رقابة عليها وعلى المسارح حتى نحمى الأخلاق».
التوافق كامل بين الحوار المنشور فى كتاب الأستاذ إمام وما جاء فى بيان الإخوان، الذى أعادت مجلة «الدعوة» نشره بعد ربع قرن من صدوره، تأكيدا لاستمرار النهج القديم! 

تفاهات وآفات
فى باب «الإفتاء»، العدد رقم «49» فى يونيو 1980، عنوان رئيسى: «حول الفنون المستوردة»، وتشير المقدمة إلى سيل من الأسئلة.. عن حكم الأغانى ودخول السينما ومشاهدة التمثيليات وسماع الموسيقى.
يتصدى الشيخ محمد عبدالله الخطيب للإجابة، وفى السطور الأولى يقول: «هناك إجماع بين المؤرخين على أن اللهو بصوره المختلفة من أخطر الأسباب التى تعرض الأمم للهلاك والزوال». ينبئ المدخل عن تداخل دال بين مفهومى «الفن» و«اللهو»، وهو ما يتأكد عندما ينقل الشيخ عن «الأخ الداعية» سعيد حوى بعض آرائه عن «مخاطر ما يطلق عليه اسم الفن»!
تحظى الموسيقى بالنصيب الأكبر من الهجوم، لأنها عند الداعية «ذروة اللهو»! وينطبق على الفنون كافة ما يسرى عليها: «إن وقت المسلم أثمن وأغلى من أن ينفق فى هذه التفاهات لأن العمر هو الزمن وهو أغلى شىء فى الحياة.. وكل شىء له عوض إلا العمر».
هكذا، وفى بساطة لا ضوابط لها، تتحول الفنون الجميلة الراقية، التى تقاس حضارات الأمم بالتقدم فيها، إلى محض «تفاهات»، لا يليق بالمسلم أن ينفق وقته فيها! وبعد أن ينتهى الاقتباس المطول من «الأخ الداعية» سعيد حوى، يؤكد الشيخ الخطيب فى تعميم يقينى حاسم: «إن ما قرره العلماء من حرمة لهذه الآفات التى نراها وقد ارتبطت تاريخيا وواقعيا بالترف ومجالس الشرب لهى الحقيقة التى لا تقبل الجدال. وفى عصرنا هذا قوى سلطان ما يسمى بالفنون على النفوس».
الفنون «تفاهات» و«آفات»، واقترانها حتمى بالترف ومجالس الشرب! قد يكون الأمر قابلا للمناقشة إذا انصب حديث الشيخ الخطيب على الأغانى الهابطة والأفلام التافهة والتمثيليات الرديئة والموسيقى المبتذلة، لكنه لا يجد فارقا بين إبداع وإبداع، ذلك أن الإنتاج الفنى كله موضوع فى سلة واحدة محرمة، والرأى الذى يتبناه الشيخ «حقيقة» لا تقبل الجدال!
ويأبى الشيخ الخطيب أن ينتهى من فتواه دون أن يتوقف أمام السينما على وجه التحديد، فيقول: «دور للعرض مكدسة بالشباب وغير الشباب فى اختلاط وتبرج، كلها حيل ماكرة لجذب الشباب إلى الباطل، وتدريبهم على الاستخفاف والاستهزاء والتجريح. وكأنما أغلقت كل السبل وسدت كل الأبواب أمام الفنانين والمؤلفين والمخرجين ولم يبق إلا مستوى الحب الرخيص والاستهانة بكل القيم. والواقع يشهد على صدق ما نقول».
ينشغل الشيخ بدور العرض، دون نظر إلى الأفلام المعروضة فيها، ويرفض الاختلاط بين الجنسين، ويرى الأمر كله فى صورة مؤامرة و«حيل ماكرة»، تستهدف جذب الشباب المسلم إلى الباطل!
والمفارقة أنه يأخذ على الفنانين والمؤلفين والمخرجين تقديمهم «مستوى الحب الرخيص»، متناسيا أن فتواه لا تميز بين فيلم وفيلم، هل يفهم من كلماته هذه أن الفن الجيد مستثنى من التحريم؟!
الإجابة بالنفى، فالرجل يعود بعد سطور قليلة ليصدر قرارا نهائيا عن رؤيته لحكم الإسلام فى الفنون التى يسأل السائلون عن شرعيتها: «وقد يعجب بعض الناس من هذا ويقول إن هذه الأشياء من المقومات الكبرى لدى سائر الأمم المتحضرة فى هذا العصر. ونقول: إن الإسلام لم يقف من هذه الأشياء هذا الموقف إلا لأنها مستوردة من حضارة غير حضارته، ونابعة من تصور غير تصوره، وللإسلام منطلق حضارى آخر مستقل بذاته لا يتفق أبدا ومنطلقات هذه الحضارة».
من العبث أن نبحث عن تصور إسلامى متكامل يقدمه الشيخ الخطيب عن هذه «الأشياء»، فليس عنده إلا كلمات إنشائية تدور حول فن يبث أخلاق الإسلام ويحض على الجهاد ويدعو إلى «احترام الصغير وتوقير الكبير»! أى فن هذا أيها الشيخ الجليل؟! إنها مواعظ جافة لا علاقة لها بالفن، ولا تستحق عناء المشاهدة.
                       روز اليوسف المصرية في 14 فبراير 2008
0 comments

يسرى نصرالله .. السياسة والحب


جرت العادة ان لايجد يسري نصر الله ممولين عربا لافلامه بل يجد منهم شروطا وتجاهلا لا يقبله مخرج حر مثله، تتواجد افلامه بجدارة في المحافل السينمائية العالمية، يسري ليس ملاكا ابدا (بالنسبة إلي رقابة السينما العربية) فأفلامه تزخر بالالفاظ والتعبيرات غير المألوفة لكن الضرورية جدا التى من دونها _إضافة إلي العلاقات المركبة بين الصورة والفكرة والسرد والشخصية الدرامية_ لن تكون هناك افلاما تشبه يسري نصرالله . وهو السبب الوحيد الذي قد يجعله يستمر في صناعة الافلام إنه ببساطة متمرد ويمكن ان نسوق عليه ما يقول عن فيلمه الاخير باب الشمس: (هذا فيلم لايربت علي كتف المشاهد ويجعله ينام مطمئنا) يسري نصرالله لايترك أحدا ينام مطمئنا.
بدأ يسري نصرالله (1952) حياته السينمائية ناقدا وسياسيا نشيطا قريبا من اليسار اصطبغت افلامه بوعيه لاسئلة الواقع الاجتماعي والسياسي فتميز كأحد اهم صانعي السياسة في السينما العربية السياسة تدخل في تكويني السينمائي. وتحتوي افلامه علي  طاقة تحريضية انتقادية تحفظ في السينما جانبها الفنى دون التضحية به لمصلحة الخطاب السياسي ونتذكر معه _مع شئ من الاختلاف_ "الاخوين تافياني" الذين قدما اروع افلام السينما السياسة في ايطاليا حيث اهتمت افلامهم بالواقع بما انه مادة للدراما السينمائية ملمحا تستند افلامها في بنائها كما يورد الكاتب جواد بشارة إلي البناء السياسي المحكم إلي جانب منطق صارم وجاد في الشكل والصياغة التعبيرية الفيلمية فلا التضحية بالموضوع او المضمون وقيمته ولا محاولة تجريبية شكلية فارغة بلا جدوا نجد مثل هذا الالتزام غير المعلن في افلام نصرالله ويمكن اعتبار ابطاله كأبطال الاخوين تافياني عندما قالا بصددهم يحقق ابطالنا ذواتهم من خلال النشاط والعمل السياسي فهم مدفوعون ومحرضون بسببه لذا فأنهم يثيرون المشاكل السياسية ويضيف يسري نصرالله إلي ابطاله مسحة من الرقة والاحساس الشفاف الذي يتسم به العاشق المنبوذ في وقائع حياته السياسة ويقدم من خلال حكاياته المسلية المزدانة بخفة ظل تنطوي عليها الالاعيب السياسة بتدعيتها المدمرة لكنه لا يتبع في افلامه علانية لاي سياسة او ايدلوجيا خارج تفسيره الذاتي للحدث والقضية في ضوء خطاب مفتوح علي الالتزام الانساني في التعامل والتأكيد علي التواصل والحميمة في طرح العلاقات بين الناس من جهة أخري، لذلك نلمس في جل أعماله تواشج تلك تلك العلاقات حيث ينإي بنفسه تماما عن الشعاراتية والسينما الدعائية التي يسميها "سينما العجز" ولم لا؟ فعندما يكون طرح القضية واتخاذ موقف بشأنها ممكنا فلماذا لا يقوم المخرج بذلك بدلا من ان يقدم عظة ثقيلة وبالتالي يقدم فيلما باردا. مؤدي هذا أن يسري نصرالله قد لايكون مع او ضد القضية التي يطرحها في الفيلم لانه كما يبدو متمسك بالفيلم ذاته وهمه خلق تجربة معايشة بين قصة بطل الفيلم والصورة فجميع افلام نصرالله سجل لما يفعله البطل. والفرادة تكمن في الطرح والتفسير (كصوت آخر) ضمن تجربة المعايشة تلك.
لم يدرس السينما اكاديميا لان اهله عارضوا بشدة لكنه اختار السينما علي رغم ذلك فمارس الصحافة (النقد السينمائي) اربعة اعوام في جريدة "السفير" في لبنان (من 1978إلي 1982) قبل ان يتعرض يوسف شاهين في حدوته مصرية وعمل معه مساعدا في الكتابة والاخراج في فيلم "وداعا بونابرت" (1984) ثم مخرجا منفذا لفيلمي "إسكندرية كمان وكمان" (1990) و"القاهرة منورة بأهلها" (1991) ومنذ الفيلم الاول من إخراجه يعلن يسري نصرالله تمرده علي النظام الاجتماعي والسياسي والفكري ويتميز تمردهع بعدم الاكتراث للعقاب الذي سيناله عندما يتجاوز الحدود او عندما يغير الزاوية التي ينظر منها لذلك يعاقب طفلا في فيلم "سرقات صيفية" أولي افلامه 1988 ويضرب بطل فيلم "مرسيدس" (1993) ويكاد يقتل البطل في باريس بعد نزال مميت في فيلم "المدينة" (2000) والان يحاصر هو نفسه فيلمه الاخير "باب الشمس"لانه يعرض الانسان الفلسطيني داخل وخارج القضية كما لم يعرضه احد من قبل: "عاشق لانه بطل وبطل لانه عاشق".
"مرسيدس والمدينة " يمكن اعتبار افلام يسري نصرالله مجموعة محطات تغني كل منها المحطة التي تليها وترتبط جميعها بطريق واحد حيث يمكن الوقوف عند فيلمه الاخير "باب الشمس" مطولا لعرض العناصر التي يركب منها الفيلم .سنترك فيلم "سرقات صيفية" جانبا لخصوصيته النابعة من طابعه الذاتي  ولعله اكثر افلامه صراحة من ناحية السيرة الذاتية كذلك فيلم "صبايا وبنات"التسجيلي مع انه نقطة انطلاق فيلم المدينة وسندرس تركيز الموضوعة بين فيلمي "مرسيدس و"المدينة".

فيلم مرسيدس يشتغل بالمعطيات الاجتماعية والسياسية التي اعقبت التحول الاشتراكي في مصر إبان عهد عبد الناصر وانهيارها إلي جانب انهيار المشاريع القومية وصولا إلي حالة التجمهر والانهزام امام الاجنبى "هزيمة المنتخب القومي لكرة القدم الذي لعب في كأس العالم 1990"، وتصاعد الخطاب المتشدد وصوت الارهاب الاصولي تختلط تلك المعطيات وتتحول إلي فوضي تبدأ من بداية الفيلم إلي نهايته لكنها فوضي متعمدة تقف ورأها قوي منظمة أشد التنظيم منها فوضي الموت حيث جثث القتلي المصريين تتلاحق إلي المقابر بين طالبي رزق وطالبي جهاد وطالبي حرية بطل نصرالله الذي يريد استيضاح كنه تلك الفوضي غارق فيها من دون علم منه او رغبة وهيهات ان يستوضح شيئا مادام عاجزا عن فهم نفسه وذلك لانه يدرك بخلاف الاخرين ان اختلافه ات من كونه فرد له وجود الاخر الذي يجب ان يحترم اختلافه ويعترف له بوجوده او يدعو في حاله، وهو بذلك لايطالب بالكثير سواء بأحترام خصوصيته وترك لحياده التي يحب حتي، وهي تشبه امه فالحب كما سنجد في الافلام اللاحقة من مواضيع من اكثر المواضيع  التي يلامس بها نصرالله شغفه في التزامه الانسانى ويربطه سويا من خلاله عكس نصرالله الفوضي في اداء الممثلين مع انه وضع بناء روائيا دقيقا للفيلم  فتقسيمه لاجزاء نتج من ذلك بروز مستويات مختلفة للقراءة متشابكة فيما بينها بين قراءة التطرف الديني والتدخل الاجتماعي  والعنف الناتج منها وكيف يعصف ذلك بالمجتمع وبأبطال نصرالله الذين علي رغم فرادتههم افرادهم هم افراد من المجتمع بكل جدارة لكن تلك المستويات في النهاية لن تتجاوز عرض الحال بأستثناء حالة الخلاص التي يخص بها نصرالله ابطاله الذين يناصرهم بشفاعة مرسيدس السيارة التي تنتشلهم من النار المتقدة نتيجة العنف الحاصل بين المتطرفين ورجال الامن ليكون الحب "المحبة" سبيل الخلاص الوحيد والجواز لمن يسمح لهم نصرالله بركوب سفينة مرسيدس قبل الطوفان .
في المدينة يجتاز يسري نصرالله معمعة الفوضي باستياء وسخط يقذفه في وجه المدينة التي يحب بعد ان صارت حاوية تضم بين جنباتها اسباب فشل الشباب الطموح يرصدها بخبرة السياسى الواعي ويظهرها علي صورتها الخانقة يقدم نصرالله سخطه عبر حكاية واحدة للشخصية الرئيسية كما سيفعل في باب الشمس ويبتعد قليلا ربما يفعل تقنية الديجيتال عن الخفة والسرعة التي صبغت فيلم مرسيدس ويبتعد اكثر عن اسلوب يوسف شاهين الذي لم يغامر كثيرا بالديجيتال قال نصرالله في لقاء له حول استخدامه الديجيتال "في الحقيقة كنت مفلسا وتقنية الديجيتال كانت منفذا لي لاكون حرا فلو وجدت نجما بدل بأسم سمرة ولو ان البطل هاجر إلي دبي مثلا بدلا من فرنسا لكان هناك احتمال هجمة تمويل لكن عندها لن يكون الفيلم هو الفيلم الذي ارغب في ان اقدمه انا اريد ان اكون حرا في اختياري والديجيتال مكنتني من ذلك  لقد حولت هذه الالة المعاقة واستخرجت منها جمالية معينة".
                                               بقلم / هوزان عكو
                                            المصدر : جريدة الفنون
                                           نُشر فى 4 نوفمبر 2009
٠٩‏/٠٨‏/٢٠١٢ 0 comments

أغنية على الممر

أحمد بيومى

بعد تغير توجهات الدولة، أى بعد رحيل جمال عبد الناصر، وخروج ثروت عكاشة من وزارة الثقافة، وقيام السادات بانقلابه الشهير فى مايو 1971، الذى صفى بمقتضاه مجموعة عبد الناصر فى السلطة، وانفرد بالحكم، سرعان ما قام بحل مؤسسة السينما تحت شعار "هل يمكن أن تجلس الدولة لتبيع تذاكر السينما؟"، تماما كما اخبرنا الناقد الكبير أمير العمرى فى كتابه الرفيع "شخصيات وأفلام من عصر السينما".
اتجهت الدولة بعد ذلك إلى تجارب الإنتاج المشتركة بين جماعة السينما الجديدة والمؤسسة، وكانت البداية مع فيلم "أغنية على الممر" المأخوذ عن مسرحية على سالم ومن إخراج على عبد الخالق، وحقق الفيلم نجاحا مقبولا فى ذلك الوقت لكن بطبيعة الحال لا يضاهى أفلام مثل "ابى فوق الشجرة" الذى كان يعرض فى نفس التوقيت. الفيلم اتسق فى حينه، مع توجهات النظام وهى التأكيد على ضرورة الصمود ورفض الهزيمة، والتأكيد أن جنود الجيش هم أبناء الشعب بمختلف طباقاته ما بين الفلاحين والعمال والأسر الصغيرة والمتوسطة، وأن صمود هؤلاء جميعا يعنى _بالضرورة_ صمود الوطن وانتصاره وتحقيق النصر.
دارت القصة حول خمسة جنود محتجزون في ممر بالصحراء بعد أن يستشهد جميع زملائهم أثناء حرب 67 وينقطعون عن العالم بعد أن يتلف جهاز اللاسلكي. الشاويش محمد ـ أكبرهم سنا، فلاح يترك أرضه ليزرعها أولاده وشارك من قبل في حرب 56. حمدي الفنان الذي يحلم بالارتقاء بالأغنية بعيدا عن الابتذال، وشوقي الذي ينشد المثالية، ومسعد العامل البسيط الذي يحلم بالاستقرار مع زوجته، أما منير فقد ارتضى بلعب دور الشخصية الانتهازية.
خلال الفيلم، المقبول على المستوى السياسى والمتوسط على المستوى الفنى، بسبب عدم تنوع المشاهد والإعتماد على مكان واحد، نرى جميعا طرفى المعركة، مصر واسرائيل. الحرب واضحة المعالم والقواعد ويقبل كلا الطرفين بنتائجها.
أما ما يحدث داخل ممرات سيناء الآن لم يطرق خيال مبدع حتى اللحظة، دماء اخواتنا التى تهدر من قبل الثورة ومن بعدها على أيادى مجهولين ملثمين إرهابيين، ذهبت كلها هدرا، والدماء التى سوف تسفك سواء فى سيناء أو خارج سيناء، لن نجد من ندينه ونقتص منه. دائرة مفرغة ندور فيها، دائرة ربما لا مفر منها سوى بطوفان شعبى يعيد لمصر هيبتها وقدرتها على السيطرة على اراضيها ومحاكمة المسئولين جنائيا وسياسيا على دم شهدائنا، والقررات العنتيرية التى تصدر دون أدنى دراسة أو دراية أو خبرة التى تفتح الحدود على مصراعيها أمام كل من يريد العبث بمقدرات هذا الوطن، وتقطع الكهرباء والمياة عن بيوتنا لتمد بها منازل الآخرين لتسديد ديون قديمة وفواتير آن ميعادها. وتبقى كلمات أغنية فيلم "أغنية على الممر" للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى حاضرة صامدة فى وجه الإرهاب داخل مصر وخارجه.
أبكى .. أنزف .. أموت .. وتعيشى يا ضحكة مصر، وتعيش يا نيل يا طيب .. وتعيش يا نسيم العصر، وتعيش ياقمر المغرب .. وتعيش ياشجر التوت، أبكى .. أنزف .. أموت .. وتعيشى يا ضحكة مصر، وتلاميذ المدارس والنورج اللى دارس، والعسكرى اللي دايس ع الصعب عشان النصر، يا مراكب يا صوارى يا شوارع يا حوارى، يا مزارع يا صوامع يا مصانع يا مطابع، يا مينا يا كباري يا منادر يا بنادر يا منازل يا بيوت، أبكى .. أنزف .. أموت .. وتعيشى يا ضحكة مصر. 
                                                  نُشر فى أخبار النجوم 9-8-2012
٠١‏/٠٨‏/٢٠١٢ 1 comments

تأملات في التمثيل السينمائي.. الهوية والرصد المتبادل



 

كتابة: ستيج بيوركمان
ترجمة: أمين صالح
(هذه ترجمة لمقالة نشرها المخرج والناقد السويدي ستيج بيوركمان في مجلة "شابلن" السويدية)


يقول المخرج في فيلم إنجمار بيرجمان "بعد البروفة":
"أعشق الممثلين. أحبهم بوصفهم ظاهرة، أشخاصاً استثنائيين. أحب مهنتهم. أحب شجاعتهم. أحب بغضهم للموت. أفهم نوازعهم الهروبية. أيضاً صدقهم القاتم الموجع. أهيم بهم حين يحاولون التلاعب بي. أحسدهم على سذاجتهم وذكائهم الحاد. ولأني أعشق الممثلين، فإنني أبداً لا أستطيع أن أجرحهم وأسئ إليهم".
*  *  *
الممثلون يختلفون عن الآخرين. إنهم لا يبدون حقيقيين. وهم بالطبع يشبهونك ويشبهون العديد من الأفراد، لكن في الوقت ذاته يتعذّر الوصول إليهم والإمساك بهويتهم. إنهم هناك، في مكان ما.. ناءٍ وبعيد: على خشبة المسرح حيث يؤدون عملاً دراميا أو يرفّهون عنا بعمل كوميدي، أو ينتقلون إلى الشاشة – الموقع الأكثر بعداً – ليظهروا في أشكال متضخمة حيناً، وضئيلة حيناً.
هذا يتماثل مع ما نحس به، نحن الذين نؤدي أدوارنا الخاصة كل يوم، حين ننظر إلى ذواتنا في الصور الفوتوغرافية. في بعضها نشعر بأننا أكثر حقيقية وأكثر ذاتية، بلا تكلّف ولا زيف. وأخرى ننظر إليها بلا اكتراث وبغطرسة، فنتجاهل الصور أو نرميها جانباً.
الممثلون مرغمون على القيام بمجابهات مشابهة في آلاف المشاهد والصور. عمل الممثل (أو الممثلة) يفضي إلى تحقيق التطابق مع الدور. معيار مدى نجاح هذه المحاولة يمكن أن يتأثر ببواعث اعتباطية كتلك التي تحثنا على إيثار صورة معينة لجواز السفر دون غيرها. ذلك لأن الممثل لا يستطيع أن يجني فائدة من جهوده إلا حين يلتقي بالجمهور حيث يواجه توقعات المتفرج وأهواءه وتحيّزه وأحكامه المسبقة ومطالبه أو إعجابه الذي يبديه بلا تردد أو مناقشة.
الممثل يلج دوره، يغيّر الشكل والمظهر. يوماً يكون بطلاً، في اليوم التالي يصبح شريراً. ولا واحدة من هذه الأدوار تتطابق مع ذات الممثل الحقيقية.
الممثلون يبتكرون النماذج من أجل مخيلتنا، لتغذية مخيلتنا. لكن أكثر وظائفهم حيوية عندما يكونون أداة لإثارة وتحريك مشاعرنا، تحريك الرغبات والعواطف والأهواء والميول العدوانية، كل درجات الألم والمتعة. إنهم يفسروننا ويترجموننا، يمارسون الإغواء لإدخالنا في عوالم يمكن أن تكون هي أحلامنا الخاصة.
أساس وجود الممثل متقلقل ومشكوك فيه، ذلك لأن هذا الوجود يستدعي مشاركة الجمهور الذي يتألف من أشخاص متعددي الطبيعة والتوجه والأهواء. التآلف باستمرار مع مطالب هذا الجمهور لابد أن يشكّل تحدياً، وبالدرجة ذاتها، يكون محفوفاً بالمخاطر.
لكن استجابةً لتوق مبهم وسرّي، أو لقوة إلزامية، فإن الممثلين يكشفون أنفسهم لهذه المجازفات المرّة تلو الأخرى. بعدئذ يغادرون الأستوديو أو خشبة المسرح ليمارسوا حياتهم اليومية مثلك أو مثلي. لكن العديد من الناس لا يعتقدون ذلك بل يفترضون بأن الممثلين والممثلات، حتى في حياتهم الخاصة، يستمرون في تجسيد أحلامنا بحياة أخرى. حتى في حياتهم الخاصة لا يتاح لهم بأن يكونوا أنفسهم، أي أن يكونوا حقيقيين. أفعالهم الشخصية من المفترض أن تكون مكشوفة أمام تحديقة وانتهاك الناس مثلما هي أماكنهم في الأعمال السينمائية أو المسرحية.
وسائل الاتصال والإعلانات التجارية تفعل ما بوسعها لإقناعنا بمكانة الممثلة أو الممثل بوصفه الشخص المصطفى الجدير بالحسد والافتتان.
الممثلون والممثلات غير مسموح لهم بأن يكونوا مثل الآخرين.
*  *  *
في فيلم الإيطالي إيتوري سكولا "نحن جميعاً أحببنا بعضنا البعض كثيراً"، ذو الطابع النوستالجي والكوميديا الإنسانية، ثمة العديد من الإشارات إلى أحد المشاهد في فيلم فيتوريو دي سيكا "سارقو الدراجة". أحد الشخصيات الأربع الرئيسية في فيلم سكولا، المدرس نيكولا المدمن على مشاهدة الأفلام، يشترك في مسابقة، وعندما يسألونه عن سبب بكاء الصبي (في: سارقو الدراجة) على نحو فاجع في أحد أكثر المشاهد السينمائية تحريكاً للمشاعر، فإن المدرس يقدم تحليلاً مطولاً عن مهارة دي سيكا كصانع فيلم، ويؤكد على براعته في التعامل مع الممثلين الهواة. بعد ذلك يرجع سبب بكاء الصبي إلى أن دي سيكا قد دسّ بعض السجائر في جيب سرواله القصير ثم اتهمه ظلماً بأنه سرقها، وذلك لكي يحصل منه على الانفعال ومن ثم البكاء الذي يحتاجه للمشهد. لكن السائل يرفض إجابة المدرّس، الذي يحتج بعنف، ويخرجه من المسابقة موضحاً بأن الصبي كان يبكي لأن والده في الفيلم تعرّض للاعتداء والإذلال بعد أن حاول سرقة دراجة.
لقد أساء المدرّس فهم السؤال، وخلط بين المنهج والمحتوى. في الحكم على أداء ممثل هناك عادةً مجال ضئيل جداً للتحليل التصنيفي للمناهج. إن النقاد والجمهور - على حد سواء – يفترضون، بشكل عام، في محاولات الممثل مع نفسه والدور أن تكون مركّبة من أجزاء متساوية من الحدس والإلهام. إن ثمرة تأمل الممثل للدور غالباً ما توصف بكليشيهات مشبّعة عاطفياً.
إجمالاً، هل يمكن تحديد قيمة عمل الممثل؟ إن كيفية توصّل الممثل إلى تحليله للدور، ونموذجه البدئي للشخصية، يظل في أغلب الأحوال سراً مصوناً. إما أن يلتزم الصمت بشأن أدائه، أو يستهين به، وغالباً ما يبدو أن هناك نوعاً من الميثاق غير المعلن، رغم أنه واضح، بين المؤدي والمخرج.. الميثاق الذي يكفل الحماية من الفضول العام.
الممثل يعير نفسه للآخرين، ويمنح نفسه لنفسه.

الجدار  الأبيض
لا أزال أذكر جيداً الحدث بأكمله:
المشهد يدور في مقهى صغير بوسط ستوكهولم، وكنا نصور أحد المشاهد الأخيرة من فيلمي "الجدار الأبيض"، في يوم سبت بارد وكئيب من شهر مارس 1974. لم يكن الموقع مزدحماً، كنا فقط نحن فريق العمل مع بعض الكومبارس والممثلة هارييت أندرسون وشريكها الممثل.
كانت درجة حرارة هارييت مرتفعة، تبلغ 39 درجة. وعندما اتصلنا بها في الصباح الباكر مقترحين تأجيل تصوير المشهد إلى يوم آخر، رفضت هي ذلك بإصرار، فقد كانت تنتمي إلى تلك الفئة من الممثلين الذين يلتزمون، في عناد وصرامة، بالمواعيد واحترام العمل. إنها مثال حيّ للممثلة التي تؤمن بأن "العرض يجب أن يستمر" مهما كانت الظروف.
المشهد الذي كنا على وشك تصويره لم يكن صعباً ومعقداً. شخصان جالسان في مقهى، والكاميرا تصورهما في لقطة عامة، لقطة متوسطة، لقطة قريبة. المرأة تتحدث والرجل يصغي. مونيكا (هارييت أندرسون)، الشخصية الرئيسية في الفيلم، ربّة بيت مطلقة، مكبوحة وعاجزة عن الإفصاح عن مشاعرها، وهي للمرة الأولى منذ زمن طويل تلتقي بشخص معه تجرؤ على الكلام، على نحو لائق، وفي أمور شخصية جداً.
في ما يتعلق بالحوار، المشهد قاس جداً ويتطلب عناية وبراعة فائقة. وقد آثرت أن أصور اعتراف مونيكا في لقطة قريبة طويلة بحيث لا شيء يعوق أو يشوش صورة وجه الممثلة في المونتاج، وكان يتعيّن على هارييت أن تحفظ الكثير من الحوار عن ظهر قلب.
جرى الاستعداد لتنفيذ المشهد كما هو معتاد: تضبيط الإضاءة، الإشراف على المكياج، ضبط البعد البؤري، ثم تركيز تام. صمت. كلاكيت. أكشن. وتبدأ هارييت (أي مونيكا) في الكلام، واثقة أمام زميلها الممثل كما هي أمام الكاميرا.
إنه تذكّر مأساوي ذلك الذي تستحضره. هي تخبره عن المرة الأولى التي غادرت فيها بلدتها في شمال السويد متجهة إلى العاصمة (ستوكهولم) وكيف أنها، أثناء انتظارها لقطار آخر في بلدة ريفية، قامت بزيارة قبر حبيبها السابق الذي مات مؤخراً في حادث سيارة لكنها تشعر في قرارة نفسها، وعلى نحو غامض، بأن الحادث كان انتحاراً.
فجأة حدث شيء استثنائي وملفت للنظر جعلني أشعر بجفاف في حلقي، واغرورقت عيناي. الصفحات الثلاث أو الأربع من النص تحولت في فم هارييت إلى تجربة حية وذكرى شخصية. لم يعد النص ينتسب إلىّ، فقد انتزعته مني هارييت واحتلته، وفي الوقت ذاته، نقلته إلى مونيكا. التفاصيل في المونولوج انتحلت توكيداً وقيمةً ومدلولاً غير متوقع. كل شيء كان حقيقياً وثابتاً: التأجج، البحث اليائس عن القبر، الألم المبرّح، الوجع.
الدموع أخذت تسيل على خدّيّ هارييت فيما هي تحاول النفاذ إلى ذكريات مونيكا قبل عشرين سنة ربما، ذات يوم صيفي دافئ. والمشهد أثّر فينا جميعاً بقوة وعمق.
عندما انتهى التصوير، وخفّ التركيز، وزال التوتر، عانقت هارييت ثم استدرت لأقول شيئاً لملاحظة السيناريو لكنها كانت قد اختفت، رغم أنها لم تكن تغادر مكانها على الإطلاق. بعد دقائق عادت حاملة باقة كبيرة من الزهور قدمتها إلى هارييت باسم الفنيين الذين شعروا بامتنان بالغ للحالة الفريدة والإعجازية التي عاشوها بفضل أدائها.
كيف حدث كل هذا؟ لا أعرف. لم أطّلع على نسخة هارييت من السيناريو لأرى كيف نظمت ونسّقت إيقاع المونولوج أثناء الحفظ. ثمة بالطبع تقنية واعية تدعم وتوطد الشيء برمته. لكن وراء نطاق ذلك، أعتقد أن هناك شيئين يحتاج إليهما الممثل: الثقة والحب.
الثقة بالمادة التي يتعامل معها الممثل، والثقة بالأفراد الذين يعمل معهم. والإدراك بأن ما ينقله الممثل، عارياً وصادقاً، سوف لن يتعرض للتحريف والتشويه في مرحلة تالية من عملية الخلق.
الحب يوجد في علاقة الممثل بالكاميرا. بعض المؤدين – وهارييت من ضمنهم – يباشرون مصاهرة جديدة في كل مرة مع هذه الآلة السحرية. إنه نوع من الغزل المنظم والمحفوف بالمخاطر، حيث الأعين تبحث للاقتراب بخطورة من الإطار الداخلي للكاميرا، الحد الأكثر طبيعية لتحديقة الممثل. ربما في أفلام جودار فقط يتاح للممثل أن ينمّي علاقات، مفعمة أكثر بالمجازفة، مع عين الكاميرا.
إذن على أي أساس ينبني فن التمثيل؟ الملاحظة ربما. مثلما ننظر إليهم – على الخشبة أو الشاشة – ونتعرّف في تمثيلهم، أسلوبهم في الأداء، على سمات من ذواتنا، فإن الممثلين أيضا قد رصدونا ذات مرة من نقطة المراقبة. لقد دوّنوا ودرسوا وجمعوا ملاحظاتهم في مخزون الذاكرة التي منها يمكن في ما بعد أن يلتقطوا حركة نموذجية أو إيماءة وجهية ليستفيدوا منها في التشخيص التالي. ذلك يشبه إخراج الساحر أرنباً من قبعته.. إنه يبدو فعلاً بسيطاً جداً، لكن في الوقت ذاته هو محيّر ومتعذّر تفسيره.

برجمان
ما يميّز علاقة إنجمار بيرجمان بممثليه هو، قبل كل شيء، الاحترام والثقة. يبدو أنه يعرف جيداً كيف يخلق باستمرار عالماً محكماً من الأمان للممثلين أينما كانوا، سواء في الأستوديو الوضاء الحار أو في موقع صاخب حيث يحتشد حولهم متفرجون فاغري الأفواه.
ثمة العديد من الصور الفوتوغرافية التي تُظهر بيرجمان جالساً وسط الممثلين، واضعاً على أكتافهم ذراعه الرحيمة، الحنونة، كنوع من الحماية. إنه يخلق لهم واحات دافئة وسط فوضى تصوير الفيلم. بألفةٍ ومودةٍ يوجّه لهم النصيحة أو كلمة تشجيع هادئة. بيرجمان يبني صوراً دقيقة جداً للممثلين في كل مشهد وحالة. إحساسه بالإيقاع والنبرات ولحظات الصمت لا يخذله أبداً. قد يظن المرء بأن هذه الدقة يمكن أن تقيّد الممثلين، لكن عند بيرجمان هي تعطيهم الإحساس بالثقة والأمان، ذلك لأنهم أيضاً يحتاجون إلى تخوم تحدّ نشاطهم، والممثل الذي يواجه حدوده يملك الشجاعة على تسليط الضوء على نفسه بكل عريه وطيشه.
هناك تماثل بين الممثل واللاعب الذي يسير على حبل مشدود. بدون الحبل نكفّ عن الافتتان باللاعب. على الأرض هو مجرد فرد عادي مثلي أو مثلك.
أحد أكثر وسائل تعبير بيرجمان فعاليةً هي اللقطة القريبة. هذا الاتصال القريب، الحميمي على نحو لا يصدّق، مع الآلة المحدّقة (الكاميرا) يعني الكثير من التحدي وأيضاً الكثير من الإغواء بالنسبة للممثل. حين يسمح الممثل لوجهه بأن يكون مكشوفاً ومباحاً عن قرب على الشاشة فإنه يجتاز الامتحان الأساسي والنهائي. إنها المجابهة المباشرة التي فيها لا يعود التظاهر ممكناً. هنا فقط شكل التعبير الأكثر دقةً وحذقاً، الأكثر تحفظاً، يكون فعالاً. الفوارق الدقيقة، المستترة على نحو رائع للعيون والشفاه والصوت، وكل تغيّر في التعبير الوجهي للممثل يجب أن يكون مرصوداً ومراقباً بقصد التكبير الذي سوف يخلقه جهاز العرض السينمائي.
كاميرا بيرجمان الموضوعة أمام وجه الممثل تكون أشبه بمرآة للروح. من منا لم ينطبع في ذاكرته وجه أنجريد ثولين المفعم بالعاطفة في "ضوء الشتاء" والذي يذكّرنا بالفرص المهمَلة ووخزات حب تعرّض للخيانة؟ أو يأس ليف أولمان حين تتذكر، بتفاصيل رهيبة، موت زوجها وابنها الصغير في "عاطفة أنّا"؟ أو انفجار بيبي أندرسون الأكثر يأساً وتحدياً في "برسونا"؟ أو مواجهات أنجريد بيرجمان المروعة والصادمة مع ذاتها الباطنية في "سوناتا الخريف"؟
الصور المديدة، المتواصلة، الثابتة، لهذه الوجوه التي تبدو موسومة بثورات داخلية عنيفة وضارية، لا تبدو جامدة – بالرغم من بساطتها – إنما طبيعية محضة. إنها تثير عدداً وافراً من الأفكار والرغبات والصور الذهنية.

عن بريسون
النظريات بشأن الممثل ومجال تأثيره، بشأن وظيفته كأداة مستقلة، أو تابعة وخاضعة لمزاج المخرج، تتفاوت من سينمائي إلى آخر.
روبير بريسون (الفرنسي) يرى الممثل كوسيط محايد والذي ينبغي أن يكتفي بإلقاء حواراته فحسب دون محاولة تأويلها، بل وحتى دون أن يُظهر بأنه يفهمها. لا شيء ينبغي أن يُؤدى، لا شيء يُفسَر. الكلمات بذاتها يجب أن تحث على التفكير. وفقاً لذلك فإن عمل بريسون اقتصر تقريباً مع ممثلين هواة، مع مواهب جديدة وغير خبيرة سينمائياً، والذين يعملون كوسائط مثالية لمبادئ المخرج الصارمة في التأويل. لكن المفارقة أن العديد من هؤلاء الممثلين والممثلات قد تحولوا في ما بعد إلى محترفين يؤدون الشخصيات وفق مفاهيم مختلفة ومتعارضة مع مفهوم بريسون الذي، بالرغم من آرائه الصارمة، لم يخذله إحساسه بالموهبة الشابة وقدراتها التعبيرية.
راينر فرنر فاسبندر (الألماني) كان يبحث عن نوع آخر من الأسلبة في الأداء. كان يفضّل العمل مع ممثلين لا يمتلكون الحساسية، ليس هذا فحسب بل حتى القدرة على التحكم، أو الاستسلام، لهذه الحساسية. لقد حاول فاسبندر أن يبتكر أداءً غير واقعي، حيث اشتغال الممثل على النص يكشف عن نقد وتعليق معاً. الممثل هنا يجسد أفكاراً بدلاً من تقديم تأويل أو ترجمة واقعية لحواراته. هذا المنهج يتطلب التزاماً ومشاركة غير عادية. وقد جمع فاسبندر حوله مجموعة من الممثلين والممثلات الذين يتكرر حضورهم في أفلامه، لا ليكونوا مفسرين مثاليين لرؤاه النقدية إجتماعياً فقط وإنما أيضاً كممثلين لأسلوب ديالكتيكي في التمثيل على نهج بريشت.
جان لوك جودار ينظر إلى الممثل كمادة للمقابلة والتحاور.. شخص يجب أن يلاحقه لكي يطرح أسئلته الذاتية جداً. لكن في الوقت نفسه، يسجل جودار هذه الملاحقة، ويحدّد درجة التوتر أو الارتخاء المطلوبة لتحقيق التوازن بين الحالة والفيلم.
جودار، بريسون، وفاسبندر لا يسعون وراء تطابق الجمهور مع شخصيات أفلامهم، والاستسلام الكلي لإغواء الجسد والوجه على الشاشة. إنهم ينكبّون على التحليل والجدل، ويرغبون – من خلال التمثيل – التوكيد على موقف نقدي، جدلي، خلافي.. أخلاقياً وسياسياً.

جون كازافيتس
للتقليد الأمريكي نقاط انطلاق مختلفة. إنهم يعطون أهمية متساوية للتشخيص (خلق الشخصية) والذاتية (تمثيل الذات). جون كازافيتيس وهتشكوك يقدمان مثالين متطرفين لـ "أن يكون أو لا يكون" الممثل على الشاشة.
شخصيات كازافيتيس تبدو وكأنها تعيش تحت ضغط يأس متواصل، في أفلام مثل: امرأة تحت التأثير، ليلة الافتتاح، أزواج، وجوه. الممثلة جينا رولاندز (زوجته وبطلة أفلامه) وصفت منهج كازافيتيس في العمل بأنه إخراج في الذروة الهائجة المتواصلة.
الفيلم يعيد إنتاج الزمن الماضي. المسرح يظهر نفسه في الحاضر. وطريقة كازافيتيس في الإخراج عبارة عن تركيب لهذين النوعين من الفن. تفجّر أكثر عنفاً (من الممثلين) من المفترض إحداثه من أجل تجربة أكثر عمقاً (بين الجمهور).

جون كازافيتس
من المربك تسليم الذات إلى فيلم حققه كازافيتيس، ذلك لأن مغامرة كهذه تقتضي ضمناً الاستسلام إلى تأثير مباشر ومشحون بالعاطفة. إنه صادم، ضاج، انفعالي، مناكد، مفاجئ، وغامر تماماً.
كازافيتيس يستخدم اللقطات الطويلة. حيّز المشهد كله مضاء. العلامات المرسومة بالطباشير مطموسة. الممثلون يُتاح لهم الأداء بأقصى درجة ممكنة من الحرية. هذا يخلق حالة من المباشرية والحميمية. إنه يقدم مجالاً لاندلاع كبير، عاصف عاطفياً، وأيضاً لكل تلك التفاصيل الصغيرة الهامة والملاحظات التي تبني تشخيصاً وتجعل الدراما الإنسانية هامة ومشوقة.
أحد أسرار منهج كازافيتيس هو فكرته أو إستراتيجيته بشأن دمج ممثلين محترفين مع هواة. غالباً ما ينتسب الهواة إلى عائلة كازافيتيس الكبيرة، فهم من الأهل والأقارب: أمه وحماته ظهرتا في العديد من أفلامه، كذلك الآباء والأشقاء والشقيقات والأبناء ومن يتصلون بقرابة أو نسب.
موهبة الممثل ليست سكونية ولا راكدة. إنها تستل غذاءها من التحديات التي تجبرها على الاتصال بأساليب أخرى في التمثيل (أو انعدام التمثيل في حالة الهواة). من المفيد ملاحظة كيف أن التمثيل يتفاوت ويتنوّع، يصبح أكثر ثراءً، في المواجهات بين فريق الممثلين المحترفين الذين يعملون عادةً مع كازافيتيس (جينا رولاندز، بن جازارا، بيتر فولك، سيمور كاسيل، كازافيتيس نفسه) والأصدقاء والأقارب.

عن هيتشكوك وممثلوه
هتشكوك أيضاً ينتمي إلى أولئك المخرجين الذين لا يحيطون شخصياتهم بمحاباة أو انحياز شخصي، حتى عندما يكبح جماح الممثلين على نحو أكثر إحكاماً مما يفعله كازافيتيس. العنصر الأساسي في فن الفيلم عند هتشكوك كان بحثه عن التطابق أو التماهي بين الممثل على الشاشة وجمهوره. ربما كان هتشكوك يعتبر الممثلين قطيعاً، لكن كاري جرانت وجيمس ستيوارت كانا أفراداً من العائلة.
هتشكوك شيّد أعماله حول ذوات كاريزماتية ذات جاذبية وشعبية، والجمهور كان يعرف جيداً هؤلاء النجوم، ويشعر تجاههم بثقة بالغة بحيث كان يرافقهم في اطمئنان ويشاركهم بثقة في الأحداث العنيفة التي تدور على الشاشة. لذا لم يكن الممثلون مطالبين بالتمثيل، بالمعنى الطبيعي والقياسي للكلمة، بل بتجسيد السلوك الطبيعي فحسب.
طرائق هتشكوك في العمل، وتأثيرها، يمكن تقديرها مباشرة من خلال رد فعل الجمهور تجاه أفلامه. هذا يفسر نجاح أفلام مثل: النافذة الخلفية، الرجل الذي كان يعرف الكثير. أيضا الاستقبال الفاتر لأفلام مثل: الرجل الخطأ.
فيلمه "دوار" Vertigo، الذي استقبل باللامبالاة، إلى حد ما، عند عرضه الأول، هو حالة مثيرة للاهتمام في هذا السياق. هذه الاستجابة يعود سببها ربما إلى أن جيمس ستيوارت هو بطل الفيلم وضحيته في الوقت ذاته. المتفرج يرفض قبول المصير المغلّف بالوحدة واليأس، ولا يعود إلى الأوضاع الطبيعية إلا عندما يتعرّض للاحتيال والتلاعب.

جيمس ستيوارت
إن أسطع دليل على قسوة هتشكوك تجاه جمهوره الوفي يكمن في فيلم "سايكو"، الذي يترك المتفرج في حالة من اللاأمان وعدم الاستقرار والفزع. خلال نصف الساعة الأولى من الفيلم نتابع الممثلة جانيت لي وهي تسرق مبلغاً من المال ثم تهرب بالسيارة. ورغم أنها سارقة، إلا أن المتفرج – الذي لا يجد خياراً ولا يجد أحداً آخر يرافقه – يسمح لنفسه تدريجياً (وإلزامياً إلى حد ما) بأن يتماهى معها. إن انفصال هذه المرأة عن العالم اليومي وعن المسؤوليات الدنيوية، ناشئ من الرغبة في ترك المعضلة المعقدة التي تعجز عن حلّها. وحين تقطع رحلتها مرغمةً وتخلد إلى الراحة والأمان في نزل motel، يطرح المتفرج جانباً كل التحفظات الممكنة ويغمره التعاطف مع ذاته الأخرى (بطلة الفيلم) على الشاشة. الممثلة هنا تقنع المتفرج بأنها ستعود إلى الحياة الطبيعية وبأنه سيعود معها. لكن في اللحظة التي يقبل المتفرج الوضع والبطلة بلا شروط، تذهب المرأة ضحية جريمة عنيفة وبشعة أمام أعيننا. بقسوة يسلب هتشكوك من المتفرج التماثل أو التطابق ليهبه هوية أخرى يمكن التماهي معها. وسرعان ما يكشف المتفرج عن عدم ولائه. إنه ينسى الوجود الأول ويعهد بوحدته إلى أول فرد يمنحه العزاء والمؤاساة: قاتل المرأة نفسه.
في فيلم "سايكو" يرغم هتشكوك المتفرج على وضع نفسه في دورين يرفض، في الأحوال الطبيعية، أن يتماثل معهما. لكنه يقبل الدعوة بفضل الأداء الصادق. الشخصيات المخترعة لا تحمل سمات أو ميزات خاصة يمكن أن تحوز ولاءنا. وحدها الخاصيات الباطنية للمؤدين تضلل خيالنا.

أنوك إيميه
هل بإمكان شخص لا يشعر بجاذبية الممثلة (الفرنسية) أنوك إيميه أن يعجب بفيلم جاك دومي "لولا"؟ هل بإمكان شخص لا يفتتن بالحسيّة الغامضة للممثلة (الإيطالية) مونيكا فيتي أن يرافق أنتونيوني عبر فيلمه "المغامرة"؟ هل بإمكان شخص يستقبل بفتور أداء الممثلة (الفرنسية) آنا كارينا أن يهتم بفيلم جودار "عاشت حياتها"؟
صرّح المخرج ماكس أوفولس، ذات مرّة، بأن مهنة صنع الأفلام هي مباشرة وواضحة المعالم.. "كل ما تحتاجه هو ممثلة موهوبة جميلة، وكاميرا خفيفة الحركة ورشيقة تلاحق الممثلة وتتابع حركاتها وأفعالها".
أوفولس نفسه عبّر عن نظريته في أفلام مثل: مدام دي، لولا مونتيز.. وهي أفلام وفّرت مجالات لعب حرّة ومفتوحة للممثلين. الممثل يجد نفسه في وضع ليس مقيداً ومحدوداً زمنياً أو مكانياً، مع كاميرا متحركة ترافق أكثر مما تعلّق، وذلك من أجل توصيل التجربة والمعرفة المتصلة بالذاتية السينمائية للممثل أو الممثلة.
منهج العمل هذا يميّز العديد من السينمائيين الكبار الذين يرغبون في فتح حوار بين الشاشة والجمهور، والذين علاقتهم بالممثلين مؤسسة على الثقة والاحترام.. مخرجون مثل: رينوار، روسيلليني، فيسكونتي، لوزي، بازوليني، برتولوتشي، تاركوفسكي.
القناعة الدينية أو السياسية لدى هؤلاء قد ساعدتهم على خلق مجال أكبر من العادي للممثل كي يفسّر ويعمّق مقاصد شخصيته. بعض الممثلين، المحاطين بجو من الحنان والرقة، قد تجاسروا بغبطة على ترك الدور يعيش حياته، ومن ثَم أظهروا لحظة الصدق الحقيقية.
فيلم جوزيف لوزي "إيفا" يقدم لنا أفضل الإيضاحات بشأن الإخراج الذي يلتزم الموضوعية، ولا يحاكم الممثل وشخصيته سلفاً بواسطة مونتاج يوجّه ويتلاعب في تعاطف أو نفور الجمهور بأسلوب ضيق وهزيل.
أيّ تحليل رائع، إيضاحي، صادق على نحو لا يرحم، قدمته الممثلة (الفرنسية) جين مورو – بمعونة لوزي – وهي تؤدي شخصية المرأة المعقّدة خلال اللقطات المتعاقبة، التي تستغرق، أربع أو خمس دقائق من بداية فيلم "إيفا"، والتي فيها تدخل فيللا بطل الفيلم بلا دعوة وتتجه مباشرة إلى غرفة نومه ثم إلى الحمّام.
في هذا الأداء الصامت والمنفرد، يصبح جسدها وحركات الكاميرا عناصر السرد الوحيدة. إننا نضطر إلى المراقبة والإصغاء، التعليق والجدل، للانسجام مع هذه المرأة على الشاشة، بشروطها الخاصة. إن علاقتها الودّية بالمتفرج قد تفضي إلى أحداث نجدها لاعقلانية ويصعب فهمها. لكنها أيضاً قد تهب تأويل الدور حياةً بذاتها، وتحرّره من مغبة أن يصبح مجرد بورتريه مكتمل ونهائي.

جين  مورو
جين مورو أيضاً من الممثلات اللواتي يفهمن على نحو جيد كيف يستثمرن ويطورن الإمكانيات التي تستطيع أن تقدمها العلاقة المفعمة بالثقة مع الكاميرا. في تأويلاتها (عبر أفلامها: العشاق، الليل، جول وجيم، يوميات خادمة، ناتالي جرانجييه، قصة خالدة) هناك هذا الإدراك والوعي بالعوامل الثلاثة التي تؤخذ بعين الاعتبار في أي أداء: تمثيل الشخص، الموضوع (الثيمة)، الدافع.. إضافة إلى الفرد الذي يمثّل له. هناك هذا التزامن من الاتصال والقرابة بين المفسّر والنص والمتفرج في كل ما تفعله جين مورو.
لذا ليس مستغرباً أن تختار جين مورو في أول أفلامها كمخرجة "إضاءة" أن تناقش مهنة التمثيل كفكرة وكوظيفة معاً. في هذا الفيلم هي تتعامل مع أربع ممثلات من أعمار مختلفة وعلى مستويات مختلفة في مسيرتهن الفنية. الممثلات الأربع يمكن النظر إليهن، في المقام الأول، بوصفهن امرأة واحدة.. ممثلة واحدة في مراحل مختلفة من حياتها.
الفيلم هو مزيج من الملاحظات والتجارب من حياة خلاّقة على الصعيدين المهني والشخصي معاً. المشهدان الأخيران في الفيلم يوضحان بفصاحة الجدلية الجوهرية المتضمنة في عمل الممثل والانفصام الذي يتجلى في التعارض بين الحياة المهنية والخاصة.
في كلا المشهدين، جين مورو نفسها هي البطلة الرئيسية. المشهد الأول ربما هو الأقوى عاطفياً في الفيلم. لورا (لوسيا بوسي) تأتي لتخبر ساره (مورو) بأن صديقها الحميم جريجوار قد انتحر. هذا الصديق لم يكن حميماً وحافظاً لأسرارها فحسب، إنما أيضاً كان لها بمثابة الأب.
ساره كانت قد صحت تواً من النوم، ولورا تجلس إلى جوارها على السرير، محتضنة إياها بشدّة. النبأ يكون فجائياً وصادماً إلى حد أنه يشلّ أية استجابة أو ردة فعل عندها. الصدمة تجعلها غير قادرة على النطق، ووجهها يتجرّد كلياً من أي تعبير.
لدقيقة مثيرة ومدهشة، يُتاح للمتفرج أن يترجم ويتقاسم كل المشاعر التي تصطخب وتجيش، وتؤثر في ساره، في هذا الظرف. إن غياب أي "تمثيل"، غياب أي تفجّر قوي وعنيف للعاطفة، يخلق إحساساً حاداً بالتماهي والتطابق، وأيضاً يحقق تنفيساً للجمهور.
المشهد الثاني، وهو المشهد الختامي في الفيلم، يُظهر ساره في محيط عمل جديد. إنهم على وشك التحقق من المكياج والأزياء لفيلمها التالي. هي تدخل الأستوديو بلباس أسود وتجلس على كرسي أمام الكاميرا تحت إضاءة مسلطة عليها. إنها تشعّ هدوءاً ورزانة وقوةً وضبطاً للنفس. يناولونها مسدساً يتعيّن عليها أن تصوبه وتطلق الرصاص، إنه المسدس ذاته الذي استخدمته في اللقطات الأولى من الفيلم في ميدان الرمي، والذي به كانت تحث جريجوار على إظهار مهارته.
فجأة تنهار ساره. ونحن لا نعرف ما إذا كان هذا وارداً في السيناريو أم أنها مجرد بروفة أفضت إلى هذه الحالة وتم تصويرها. ينهي المخرج التصوير، وسرعان ما يحيط بها تقنيو الفيلم والعاملون، محتشدين حولها مثل سور يحميها، وفي الوقت ذاته تتراجع الكاميرا بحذر نحو الجانب المعتم من الأستوديو.
في رقعة الضوء التي تحبس ساره، يكفلون لها، بالكلمات والإيماءات، الحماية التي تنشدها جين مورو، المخرجة، والتي هي في لبّ الوجود الفعلي للممثلة.
على المخرج، كما تقول مورو، أن يخلق الأمان والحماية للذات الحقيقية للممثل، لحياته الباطنية، ذلك لأن الممثل مخلوق خائف دوماً، حساس وسريع التأثر وغير حصين.. على المرء أن يدعمه ويعينه بكل الوسائل الممكنة. يجب أن يشعر بأنه محبوب ومرغوب فيه.
المشهد الختامي في فيلم "إضاءة" هو حاسم. الممثل لا يستطيع أن يخلق الحلم للمتفرج إلا إذا كان محاطاً بأولئك الذين يثق بهم.. من أصدقائه العاملين معه في الفيلم إلى أصدقائه في صالة السينما.

الممثل والأسطورة
ستانيسلافسكي نصح جميع الممثلين بأن يمثلوا ذواتهم. مورناو قال: "لا تمثل، فكر". لكن "تفكير" الممثل في الفيلم يعني أنه "موجود". إن حضور الممثل السينمائي أمام الكاميرا يجب أن يُظهر، قبل كل شيء، الولاء لذاته الخاصة.
الفيلم يخلق ذواتاً مميزة. الفن السابع يستثمرها ويبيع أعمالها. إنه يوفّر نقطة الانطلاق لعبادة النجم (رودولف فالنتينو، جريتا جاربو، بريجيت باردو، مارلين مونرو، جيمس دين). ممثلون وممثلات في أفلامهم يمضون مباشرة إلى لبّ تخيلاتنا، والذين يُجبرون على تمثيل الحكايات الخرافية الوجدانية والاصطناعية في الحياة الواقعية.
لكن الأساطير لا تستطيع أن تقبل أي دور، والشخص الواقف خلف الكاميرا، الراغب في فتح أعين الجمهور على واقع لا تسكنه العذراوات والرجال الجذابون، يلتقط – أي هذا المخرج – رجلاً أو امرأة من الشارع، ذلك لأن كل شخص يستطيع أن يؤدي شخصيته الواقعية على الشاشة مرةً واحدةً على الأقل. العديد فعلوا ذلك، وعرضوا قطاعاً صغيراً من الحياة انتخبه المخرج من أجل استنطاقه. لقد أباحوا وجوههم وأجسادهم وأصواتهم لأن ثمة – كما هو الحال مع الممثل المحترف – متطلبات بدنية واختيارات معينة تنسجم مع كل شخصية مخترَعة.
الدور يحدّد الممثل، والممثل يتحكم في الدور. الفيلم يبحث عن موديلاته في الوجوه المدموغة بختم باطني من القوة أو الضعف، البراءة أو التجربة. الأقنعة المتناغمة المستثمرة في محيط متناسق أو هيولي ومشوّش.
بينما يمرّر المسرح حكاياته وأفكاره بواسطة الممثل، يعمل المؤدي السينمائي كما لو كان عابر نهر.. إنه هناك، في منتصف دوامة القصة أو في المياه الساكنة.
وفقاً لمارلو، المسرح يقدّم رأساً صغيراً في الفضاء الشاسع، والسينما تقدّم رأساً كبيراً في فضاء صغير. في تلك الخلوات التي توفرّها صالات السينما نكون وحدنا مع هذا الوجه الإنساني الهائل، قناع للقراءة والتأويل، شخص في حضوره نستطيع أن نعكس أو نتبادل انعكاساتنا وتجاربنا.
*  *  *
ممثلتان في مرحلتين مختلفتين نجحتا، بأكثر السبل غموضاً وتوليداً للوهم، في إبراز النجمة السينمائية في مظهرها الأكثر كمالاً، كأسطورة وكفرد معاً: جريتا جاربو، مارلين مونرو.
كانتا على الدوام ترسمان صوراً ذاتية جديدة على الشاشة، وفي الوقت نفسه، تطمسان الأدوار العادية المبتذلة التي تضطران إلى المشاركة فيها. لقد وهبت كل منهما وجهها وجسدها وجمالها، والجمهور لمح الروح، الوعود، الآمال، النشوة، القسمات التي تكشفت في لقاءاتهما المستمرة والمباشرة معنا.
كلتاهما تطوعتا لتجسيد أحلامنا.. أحلامٍ من أجل عهود مختلفة. لقد تحدثتا إلينا بالمزيج المركّب ذاته من الصراحة والتحفّظ.
بينما صدّقت جاربو، بكياسة سوداوية ونفاذ بصيرة، على وحدة الروح التي لا شفاء منها والعذابات الحادة للحب الرومانسي، فإن مونرو كانت تروق لرغبتنا في إطلاق تخيلاتنا الجنسية دون تحفّظ. كل منهما حاولت أن تجعل توقنا الخفيّ ملموساً أكثر.
لكن في الوقت نفسه، كل منهما رأت وفزعت من الوجوه الضارية بين الأعداد الغفيرة والمجهولة من المعجبين. لقد شعرتا بالمطالب والحاجات الملّحة الكامنة خلف الإعجاب والتأليه. هناك أيضاً الصحافة التي صوّرت هاتين الممثلتين بالصورة التي يرغب فيها صنّاع السينما (والجمهور): جاربو الغريبة، الناسكة، المتوحّدة مع ذاتها، المفعمة بالعاطفة. ومونرو المغوية، المثيرة، المشوشة، المدمرة لذاتها.
أخيراً، في العمر ذاته، قررتاأن تهجرا أضواء الشهرة وبريقها، متبرئتين من استبدادية التكرار وطقوس الافتتان، لتتحدا مع الصورة المنسوبة إليهما: جاربو لاذت بالصمت والعزلة التامة، ومونرو اختارت التضحية النهائية والأكثر كمالاً من بين جميع التضحيات.. الانتحار.

 
;