مصطفى بيومى
عطية، الفنان يحيى الفخراني، موظف صغير يعيش في القاهرة، ولا يفكر في مغادرتها على الرغم مما يعانيه فيها من إرهاق مادي ونفسي.
تبدأ أحداث الفيلم باستعراض دال لأخطر ما في العاصمة المزدحمة من هموم ومشاكل: المسكن القديم الآيل للسقوط، الزحام والضجيج، الوظيفة الروتينية غير المشبعة؛ حيث «حلم» الوصول إلى درجة المدير العام هو الطموح الأكبر، المعاناة الاقتصادية التي تعرقل زواج عطية من خطيبته وتهدد استقراره.
العلاج الوحيد الذي يفكر فيه الموظف الصغير البائس هو بيع الأفدنة القليلة التي يملكها في قريته، ولإتمام عملية البيع ينتقل الفيلم ببطله إلى القرية، التي تبدو جنة موعودة قياسًا بما في القاهرة من عذاب.
في الفيلم عالمان متناقضان لا مشترك بينهما إلا الفنان الكبير يحيى الفخراني، فهو الوحيد الذي يتحرك بين القرية والعاصمة، ويقدم بانتقاله شهادة حية عن الفوارق الهائلة بينهما.
في القرية، يتعامل عطية مع الإقطاعي القديم الطيب، فريد شوقي، الذي يعيش في عفوية لا تعقيد فيها، كما يقترب من أسرته المليئة بالحيوية والطزاجة والبساطة، حتى فيما تحمل من أسماء. الحياة في القرية، إذا تغاضينا عن المشاكل الصغيرة مثل الخوف المرضي من الفئران، كأنها قصيدة شعر في عذوبتها وبساطتها ورومانسيتها، والاختيار النهائي لعطية هو الاستقرار فيها، وإدارة الظهر للعاصمة المزعجة القاسية، التي أعلنت موته «رسميًّا» بعد انهيار بيته القديم المتهالك.
هل يتحقق الخلاص بمثل هذه الرؤية التي تدعو إلى الهجرة العكسية؟ وماذا يفعل المهاجرون من المدينة إلى القرية وفي أي نشاط يعملون؟ كان الفيلم حريصًا على أن يكون عطية من هواة الدراسات الزراعية، ففي هذه الهواية ما يبرر استقراره في القرية عاملاً لا عاطلاً، أما الذين يتخصصون في مجالات لا تناسبها إلا المدينة، فكيف يعملون؟
يقدم المخرج الكبير محمد خان، والكاتب الموهوب عاصم توفيق، هجائية قاسية لمدينة الثمانينيات المتوحشة، ويبايعان سكينة القرية ووداعتها، لكن هذه «اليوتوبيا» أقرب إلى الشعر الجميل الحالم غير القابل للتجسيد.
في ظل الصفاء الذي يبشر به الفيلم في حماس، لا يبدو مستغربًا أن تخلو القرية من المشاكل والمنغصات، وأن يختفي الفقراء وينتفي الصراع، وأن يظهر المالك الإقطاعي القديم وأسرته كنماذج مضيئة في بساطتهم وتآلفهم ومشاعر الحب والمودة التي تجمعهم. لا عمل لهم في الفيلم إلا التهام الطعام بكميات هائلة، أو الاستعداد لالتهامه، ولا تفكير في المستقبل، حيث تُؤجل مواجهة المشاكل لتستمر ممارسة الحياة بلا منغصات.
قد يكون الاختلاف قائمًا مع الرؤية التي يقدمها الفيلم، لكن الإقرار ضروري بأن المعالجة السينمائية تتسم بالعذوبة والرقة المنعشة، فلا يملك المشاهد إلا أن يندمج ويتواصل ويحلق بخياله مع ذلك العالم الجميل الذي يخلو من الهجوم، وتسيطر عليه البساطة والعفوية، ويتحول الاندماج مع الطبيعة إلى طموح نبيل لا يعرفه إلا من يحرمهم جفاف المدينة من نسمة صافية خالية من العكارة والتجهم.
يشهد الفيلم مباراة تمثيلية رفيعة المستوى بين العمالقة: فريد شوقي، ويحيى الفخراني، وعايدة عبدالعزيز، وتوفيق الدقن، وتجد ليلى علوي من يوظف جمالها في إطار مختلف عما تعودته، فإذا بها كالفاكهة الطازجة التي تبث في عيون وقلوب مشاهديها نشوة الحياة.
عُرض الفيلم في الثامن من أبريل سنة 1985، وأخرجه محمد خان، ويحظى بعد أكثر من ربع قرن باهتمام المشاهدين في البيوت؛ ذلك أنهم يجدون فيه مزيجًا من كآبة الواقع وأحلام الخلاص.
0 comments:
إرسال تعليق