١٠‏/١٢‏/٢٠١٢

ثرثرة فوق النيل


مصطفى بيومى
في الخامس عشر من نوفمبر سنة 971، كان العرض الأول لفيلم " ثرثرة فوق النيل" الذي أخرجه حسين كمال عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ. نخبة من كبار النجوم شاركوا في البطولة الجماعية للفيلم الجرئ الشجاع، الذي يقدم شهادة بالغة الأهمية عن الواقع المصري قرب نهاية الستينيات: عماد حمدي، ماجدة الخطيب، أحمد رمزي، سهير رمزي، عادل أدهم، مرفت أمين، صلاح نظمي، نعمت مختار، أحمد توفيق، أحمد الجزيري.
النص الروائي يتنبأ بهزيمة يونيو 1967 قبل وقوعها، أما الفيلم فيعبر عن واقع ما بعد الهزيمة، ومن هنا لم يلتزم كاتب السيناريو ممدوح الليثي بتفاصيل الرؤية الروائية. جانب من الاختلاف بين النصين الأدبي والسينمائي يعود إلى تباين لغة التعبير بين الأدب والسينما، أما الجانب الآخر فمردود إلى ما يراوده محفوظ لا يتطابق مع طموح الليثي وحدود وعيه، لكن المشترك بينهما هو السعي إلى تقديم شهادة موجعة لاذعة، عن نظام يرفع الشعارات الاشتراكية التي لا تنعكس آثارها العملية على الإيقاع اليومي للحياة، وعن مجتمع يخوض جيشه حربا مصيرية على الجبهة، في ظل قطيعة مع سلوك قطاعات واسعة من أبناء المجتمع، تشعر بأنها زائدة ولا ضرورة لها، وتتجه إلى إدمان المخدرات والثرثرة العبثية بحثا عن خلاص فردي وهمي.
يقدم الفيلم شلة من الأصدقاء الذين يلتقون كل ليلة في عوامكة نيلية، حيث الحشيش والخمر والجنس والإسراف في الضحك والتهريج بلا ضابط أو رابط. مجموعة مختارة من العناصر التي ينبغي أن تكون فاعلة وإيجابية في بناء نهضة المجتمع المصري: الممثل السينمائي رجب القاضي "احمد رمزي" الأديب والكاتب القصصي خالد عزوز "صلاح نظمي"، المحامي الكبير مصطفى راشد "أحمد توفيق" فضلا عن الموظف الصغير الذي لا يفيق من المخدر أنيس زكي"عماد حمدي".
حول هؤلاء تظهر نساء ضائعات مستهترات لا التزام عندهن بالقيم الأخلاقية والقواعد الاجتماعية المتعارف عليها: سنية كامل .. الزوجة الخائنة التي تجد في خيانة الزوج ما يبرر سلوكها "نعمت مختار" ليلى زيدان .. الموظفة المترجمة التي تتحمل مسئولية أسرة ضخمة بمرتب محدود فتلجأ إلى التجارة بجسدها "سهير رمزي"، سناء الرشيدي.. الطالبة الجامعية الشابة التي تحلم بالتمثيل والنجومية والثروة الطائلة وسكنى القصوى "مرفت أمين".
رجال ونساء يرفعون رايات الضياع والسلبية في العبث غير المحدود، أما حارس العوامة عم عبده "أحمد الجزيري" فرجل بسيط لا يملك إلا أن يطيع السادة وينفذ أوامرهم، ومع ادراكه. وهو المتدين المحافظ على الصلاة .. أن مناخ عمله موبوء حافل بالرذائل والمعاصي، فإنه يقنع بالفرجة والدعاء السلبي الذي ينم عن الضعف والاستسلام، أكثر من تجسيده للإيمان والورع: "استغفر الله العظيم .. سامحني يا رب"!
الشخصيات التي يقدمها الفيلم، من الرجال والنساء على حد سواء، تكشف عن انهيار المجتمع وتغلغل الفساد، وصولاً إلى استشراء السلبية التي أدت إلى هزيمة 1967، ولم تنته بوقوعها. سينما تافهة تخاصم الواقع وتعازل كل ما هو مبتذل سوقي ركيك، وهو ما يتجلى بوضوح في مشهد أغنية "الطشت قالي"، صحفيون ونقاد يحولون مهنة الكلمة الحرة الشريفة إلى تجارة شخصية رائجة لا احترام فيها لمبدأ أو عقيدة، أدباء انعزاليون يديرون ظهورهم وعقولهم لنبض الواقع ويتعالون على معطياته، محامون بارعون يتلاعبون بالقانون ويجعلون من الباطل حقًا كأنهم الحواة، موظفون تطحنهم آلة البيروقراطية وتكرس شعورهم بالغربة والاغتراب واللامبالاة، نساء لا سلاح لهن إلا استثمار الجسد بحثًا عن المال والمتعة والصعود الاجتماعي.
في أجازة عيد الهجرة، يقوم أفراد شلة العوامة بنزهة تنتهي بقتل فلاحة بريئة شابة، لا ذنب لها إلا وجودها في طريق هؤلاء الصفوة من العابثين المستهترين، الذين تنطلق بهم السيارة في سرعة جنونية. هروبهم من مسرح الجريمة، دون تفكير في القاء نظرة على الضحية ومحاولة انقاذها، بمثابة الامتداد لحالة الهروب الدائم التي يعيشونها ويقنعون بها.
تستمر حياتهم بلا تغيير كأن شيئا لم يحدث، بل ان الشعور بالذنب لا يجد له متسعا في ضمائرهم الميتة. يتجسد ذلك بوضوح فيما يقوله الأديب خالد عزوز: "ناس كتير بيموتوا أونطة"!، وما تقوله الجامعية الضائعة سناء الرشيدي "كانت هاتموت من الجوع وخليناها شهيدة"!.
صحوة مفاجئة متأخرة تنتاب الموظف المدني انيس زكي، فإذا به يتمرد على رفاقه ويغادر العوامة بعد معركة مع رجب القاضي، معلنا عن نيته في الاعتراف بجريمة قتل الفلاحة. بعد ذهابه إلى الصحفية الجادة سمارة، يبادر الحارس الشعبي الطيب، عم عبده "أحمد الجيزاوي" إلى فك سلاسل العوامة، لتواجه ومن فيها أشباح الضياع والغرق.
يصرخ عماد حمدي: "الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا"، وينتهي الفيلم بشعاره الذي يتجاوز العوامة وأفرادها إلى جمهور المشاهدين، كأنه يقدم لهم خلاصة الرؤية: "لازم نفوق .. لازم نفوق"!
النجاة للجادين والتائبين والبسطاء، الصحفية سمارة بهجت والموظف أنيس زكي والحارس عم عبده، والضياع والهلاك نهاية حتمية لمن لا يملكون ذرة من الانتماء والإخلاص. هل تعبر النهاية عن قراءة صحيحة لتفاعلات الواقع، أم عن حلم بعيد المنال؟!

0 comments:

إرسال تعليق

 
;