٢٣‏/٠٦‏/٢٠١٢

على سبيل التقديم .. مقدمة كتاب "يوسف شاهين .. نظرة الطفل وقبضة المتمرد"

(مقدمة كتاب "يوسف شاهين .. نظرة الطفل وقبضة المتمرد) للناقد إبراهيم العريس
... ذات يوم من أواخر شهر تموز (يوليو) 2008، حلت اللحظة التى كنا نحن، محبى يوسف شاهين وأصدقاءه وأنصار سينماه، نخشى مجيئها. منذ سنوات عديدة، وربما منذ "حدوتة مصرية" كنا نعرف أن هذه اللحظة سوى تجئ يوما. ومنذ ذلك الحين ظلت عواطفنا وأقلامنا وذكرياتنا مستنفرة تماما، فى انتظار مجيئها، خوفا من مجيئها. كان عزاؤنا الوحيد أنها لحظة ظلت تعلن عن حضورها ثم تغيب، غير مأسوف عليها، مرة كل سنتين على الأقل ... وطوال أكثر من عقدين. ولكن خلال السنوات الأخيرة السابقة على لحظة الموت ، بدا يوسف شاهين فى حال الخطر الشديد. وهو نفسه كان قد سبق أن صور تلك الحال فى لحظات سينمائية عديدة، بشكل موارب أو بشكل مباشر "حدوتة مصرية" ... دائما .. ومن هنا، ما كان من حقنا أن نشعر بأية مفاجأة، ما كان من حقنا أبدا أن نتوقع ألا تأتى فى تلك اللحظة.
وهى أتت بالفعل، ومن ناحية القلب تحديدا. القلب وقد أوصل ضعفه إلى الدماغ. نفس القلب الكبير الذى دائما ما انفتح على العالم، على الآخر، على الإنسان، وقال عاليا، وإن بالصورة والحوار المتلعثمين قصدا، ما يهمس به كل فكر عربى نير. هل ستبدو، يا ترى، فى إزاء هذا كله، قساة إن قلنا إننا منذ زمن نترقب هذه اللحظة ... واضعين أيدينا على قلوبنا نأمل فى معجزة، نعرف تماما أنها لن تحدث؟
فى كل مرة كنا نزور فيها "جو" وهو يصور فيلما من أفلامه، كنا نقف قلقين نراقبل الفارق فى الحماسة والقوة لديه، بين أول أيام التصوير وآخرها. فى الآخر يكون منهكا، بالكاد قادرا على الحركة، يتمنى لو أن فى إمكانه أن يفعل ما يفعله عشرات المخرجين الآخرين: أن ينهى تصوير فيلمه كيفما اتفق. أن يختصر، أن يسلق الأمور "سلقا"، بحسب التعبير الشائع، لأنه تعب وبات يخشى أن يموت قبل ان يقول آخر "آكشن" فى برنامج العمل. لكن شاهين، القادر عادة على كل شئ، كان يبدو فقط عاجزا عن هذا. بل أكثر: يروى لنا منتجه وصديقه وابن اخته جابى خورى، أنه دائما حين يقترب التصوير من نهايته، كنت أقصده مشفقا قلقا، كى نختصر العمل ونضحى بشئ من "الكمال" المتوخى، حاملا إليه برنامجا بديلا ... فافأجأ به يبادرنى قبل أن أتكلم، قائلا: " ... اسمع يا جابى، جائتنى فكرة رائعة لفيلمى المقبل". هنا فى مثل هذه الحالات يسقط فى يد جابى، ويضرب وجهه بيديه، "خوفا على الأستاذ"، لكنه فى الوقت نفسه يدرك أن عليه أن يستعد لخوض مغامرة أخرى جديدة معه، غالبا ما تكون السينما هى الرابحة فيها. وهذه "الغالبا" هى هنا من عند كاتب هذه السطور .. وبالتحديد لأن بعض ما حققه شاهين فى السنوات الأخيرة، كفيلم كامل أو جزء من فيلم، ليس من المنطقى اعتباره ربحا للسينما.
هذا الكلام قد يبدو هنا فى غير محله، لكن شاهين، الفنان والناقد الصديق، عودنا دائما أن نكون صادقين معه. من هنا حين نقول له مثلا، أن "الآخر" لم يقنعنا، وأن النصف الثانى من "هى فوضى"، أشبه بفيلم هندى متهافت، وأن بعض ما في "سكوت هنصور" ليس شاهينيا، لا يزعل ... بل يتذكر تماما أن من يقول له هذا، هو نفسه من يدافع بقوة عن "أسكندرية / نيويورك"، ومن حمل "المصير" راية عالية للسينما العربية، وناصر "المهاجر" و"اليوم السادس" يوم كانا عرضة للهجوم على جبهات عدة. حين نقول لشاهين أن "الإسكتش" الذى حققه فى "11/9" ساذج وغير منطقى بل ديماجوجى، لايفوته فى اللحظة نفسها أن من يقول هذا، هو نفسه الذى أختار"الآرض" و"باب الحديد" و"عودة الأبن الضال" ثلاثة من بين أعظم عشرين فيلما فى تاريخ السينما العربية.
لعبة العلاقة مع النقد كان شاهين يتقنها إتقانا تاما. كان يعرف أن المبدع فى حد ذاته هو صاحب نظرة نقدية تلقى على الآخر، على التاريخ وعلى الذات. وبالتالي لا يحق له أن يغضب حين يلقى ناقد ما، ول نظرة قاسية على أعماله هو نفسه. وشاهين عبر عن هذا، فى شكل عملى وجميل ذات مرة: كان سمة شئ من الجفاء بينه وبين كاتب هذه السطور. وكان شاهين يصور فى ذلك الحين بعض مشاهد رائعته "المصير". كنا فى القاهرة مع أصدقاء آخرين من بينهم الناقد قصى صالح الدرويش، والراحل غسان عبد الخالق. دعتنا يومها الفنانة الصديقة ليلى علوى، بطلة الفيلم لحضور التصوير ليلا فى استديو جلال. ترددنا، إذ لم نرد أن نربك شاهين بزيارتنا موقع التصوير ونحن على جفاء. قالت: الدنيا ليل، وأرجو ألا تلتقيا. فإن ألتقيتما، حاول أن تتصرف بهدوء. ذهبنا وشاهدنا التصوير واقفين جانبا. ولكن فى لحظة كنا نتحدث فيها إلى ليلى، فاجأنا شاهين بوقوفه معنا مرحبا وهات يا عناق. دهشت ليلى ونظرت غلى شاهين بعينيها، فقال ردا على نظرتها: "إيه .. مالك .. ما إحنا وأنا وابراهيم بنشتم بعض من ثلاثين سنة ولا نزال زى البمب ...".
هكذا اختصر شاهين، يومها، الحكاية. واليوم، إذ رحل، يمكننا أن نتصور أنه لو كان بيننا ورأى حزننا عليه كان من شأنه أن ينظر إلينا ساخرا ويقول: "فيها إيه ... زعلانين ليه ... ما أنا والموت نتصارع منذ ثلاثين سنة ... ولانزال زى البمب ... ". شاهين لم يكن يبالى بالموت كثيرا. فهو، كمبدع، كان شاعرا ... ويعرف تماما قولة جان كوكتو من أن الشعراء لا يموتون طالما أن أغنياتهم تبقى منتشرة فى الأزقة. وشاهين حقق طوال ستين سنة، تقريبا، أفلاما من المؤكد أن معظمها يبقى حيا ... بل ستبقى حية أيضا، أجزاء كثيرة ومواقف حتى فى أفلامه الأقل جودة. فالحال، إذا كان أسم يوسف شاهين قد تصدر الصحف ووسائل الإعلام فى أخبار تابعت لحظة بلحظة وضعه الصحى وغيبوبته ونقله إلى فرنسا ووصوله إلى النهاية، فما هذا إلا لأنه – بالتحديد- حقق هذه الأفلام وصور تلك المشاهد.
ولعلنا، فى تأملنا لهذا الواقع الأخير، نعلن بهدوء انتصارا ما ليوسف شاهين. وإذ نقول يوسف شاهين هنا، نعنى فى الوقت نفسه انتصار السينما، وأكثر من هذا: انتصار المخرج. ذلك أن الكلمات الثلاث: شاهين، سينما، ومخرج، ليس من السهل تفريقها بعضها عن بعض. وهذا منذ فيلم شاهين الأول "بابا آمين" الذى بتحقيقه عام 1949، أعلن شاهين ولادة جديدة لنجم سينمائى جديد هو المخرج. لا نعنى بهذا أن المخرج لم يكن موجودا قبل ذلك فى السينما العربية ... إذ إن مبدعين مثل صلاح أبو سيف وكامل التلمسانى وكمال سليم وحتى نيازى مصطفى وبركات وربما كمال الشيخ وعاطف سالم، حضروا مبدعين حقيقين فى السينما المصرية قبل شاهين.
لكن شاهين خطا بموقع المخرج خطوة أخرى إلى الأعلى .. أعلن ولادة المخرج – المؤلف، المخرج الذى يستقى مواضيعه من نظرته إلى العالم ومن همومه الخاصة (الذاتية، حتى فى بعد نرجسى، لاحقا)، فارضا على السيناريو رؤاه، حتى وإن كتبه آخرون، بل مبدعون كبار فى أزمانهم من طينة عبد الحى أديب "باب الحديد" أو لطفى الخولى "العصفور" أو حسن فؤاد "الأرض" عن رواية لعبد الرحمن الشرقاوى. وكان هذا هو الجديد: ولادة المخرج – المؤلف، أو شبه المؤلف، وذلك قبل ولادة هذا، على يد الموجة الجديدة الفرنسية بنحو عقد كامل من السنين. إذ، علينا ألا ننسى هنا أن شاهين يمكن اعتباره فى الإبداع العربي، الترجمة المبكرة، لما سيقوله فى آخر سنى حياته الكاتب الفرنسى آلان – روب غرييه، من أن المبدع، ومهما كانت موضوعية ما ينتج وشئيئيته، هو لا يتحدث فى نهاية الأمر إلا عن نفسه. وشاهين، لأنه مبدع حقيقى، جعل سينماه مرآة لنفسه منذ البداية: إذ حتى "بابا آمين" إن نظرنا إليه اليوم على ضوء مسيرة شاهين التى نعرف، سيبدو فيلما ينتمى إلى السيرة الذاتية.
ولنضف غلى هذا أمرا أساسيا: أن يوسف شاهين كان واحدا من قلة من مبدعين عرب، لم يمارس فى حياته سوى مهنة واحدة: الإخراج السينمائى. ربما أنتج أحيانا، وربما مثل فى بعض أفلامه، وربما حقق عملا أو أكثر للمسرح، لكنه بصورة عامة، أمضى عقود حياته المهنية، حتى النهاية، وهو لا يعرف لنفسه مهنة أخرى سوى الإخراج السينمائى. ولعل هذا ما يوصلنا إلى لحظة الدهشة القصوى، التى تبعثها ظروف الأيام السابقة لرحيل شاهين حيث باتت أخباره الصحية، أخبار صفحات أولى فى معظم الصحف ونشرات الأخبار العربية. ذلك أن المدهش فى هذا أن شاهين ليس رجل سياسة ولا هو نجم غناء، ولا ظاهرة اجتماعية. شاهين هو، وفقط، مخرج سينمائى. ومه هذا ها هو يعامل، إعلاميا، كنجم حقيقى، وها هم عشرات ملايين العرب، وأهل مهنة مهتمون خارج العالم العربى أيضا، يتابعون وضعه الصحى لحظة بلحظة، بمن فيهم أناس ربما لم يقيض لهم أن سشاهدوا أى فيلم كبير من أفلام شاهين. ترى، أو ليس فى هذا كله انتصار للمبدع، ولا نعنى هنا بالمبدع شاهين وحده، بل بالمبدع العربى فى شكل عام؟ وترى، كم مخرجا سينمائيا فى العالم يمكنه، حين يمرض وينقل إلى المستشفى، أن يحظى بمثل هذا الأهتمام العام؟ نحن قد نفهم ضجة تُثار من حول رحيل سعاد حسنى أو أحمد زكى، وحزنا يسود لرحيل أم كلثوم أو فريد الأطرش أو فايزة أحمد، أو – بخاصة -  عبد الحليم حافظ، أو جمال عبد الناصر ... ولكن – بصراحة – يدهشنا الاهتمام نفسه إذ يعطى لفنان، شديد الخصوصية، مثل يوسف شاهين. ومرة أخرى نميل إلى اعتبار هذا الاهتمام انتصارا للفن الحقيقى.
الفن الحقيقى ... وإن كنا نعرف أن ليس كل ما حققه شاهين، ينتمى إلى هذا الفن الحقيقى. فالمخرج الذى حقق بعض أجمل روائع السينما العربية – خائضا فى سبيلها ألف معركة ومعركة – هو نفسه الذى حقق ميلودرامات غنائية قد لا تتماشى كثيرا مع سمعته (سلسلة أفلام فريد الأطرش وغيره، يصعب على المرء تخيل تحقيق شاهين لها، حتى وإن كانت تعتبر من أفضل أفلام هذا الفنان الموسيقى الغنائى الكبير وأفلام غيره من نجوم عملوا مع شاهين كنجوم لا أكثر)، وهو نفسه الذى حقق أعمالا هى أقرب إلى فن الدعاية الديماجوجية (مثل "الناس والنيل" و"الناصر صلاح الدين" حتى ولو أننا كنا نتمنى لو أن كل الفنون الديماجوجية العربية تأتى على هذا المستوى) ... ففى مسار يوسف شاهين أعمال لا ترقى إلى مستوى شاهين. ولكن بما أن فن السينما هو ما هو عليه، وبما أن الأمر ليس بطولات دونكيشوتية، يبقى أن فى إمكاننا التأكيد أن شاهين، حتى حين كان يحقق أعمالا "تجارية" أو "ديماجوجية" كان قادرا على أن ينفد بجلده ويزين العمل، أي عمل، بلحظات شاهينية حقيقية، ما جعله يبقى دائما متساوقا مع نفسه، محافظا على ما يمكننا اعتباره حدودا دنيا فى لعبة الإبداع.
انطلاقا من هذه الفكرة، فقط، يمكن النظر دائما إلى سينما شاهين بغثها وسمينها، على أنها تشكل وحدة متكاملة ترتبط فيها دائما عناصر أساسية متكاملة: عنصر النظرة المشاكسة إلى الواقع، عنصر موقع الذات فى هذا الواقع، وعنصر الربط بين الأسباب والنتائج. فمثلا حين كان شاهين يريد أن يتحدث عن هزيمة عربية، كان يعرف تماما أن عليه ألا يكتفى بالقول إن هناك هزيمة وأن هذا الطرف أو ذاك هو المسئول عنها ... بل يصل إلى ربط الهزيمة بأسبابها العميقة، وبالخيانات وضروب التخلف والصراعات (واتساع النسيج فى هذا المجال هو الذى جعله، مثلا، لا يتحدث عن هزيمة حزيران / يونيو فى أقل من اربعة أفلام متكاملة: "الأرض"، "العصفور"، "الاختيار"، و"عودة الابن الضال")، ومحاكمة الراهن، فى الثمانينات والتسعينيات من القرن العشرين، احتاجت منه إلى عودة إلى التاريخ (فكانت افلام تبدو لنا مترابطة فى نهاية الأمر، مثل "وداعا بونابرت" و"المهاجر" و"المصري")، ومحاكمته – التبسيطية على اية حال لما تصور، وصور له أنه العولمة – احتاجت منه أفلاما عدة وتدخل مفكرين سايروه فى فكرته عن العولمة (مثل الراحل إدوارد سعيد والسياسى حمدين صباحى، فى "الآخر"، عبر ثرثرة غير مفيدة) وكذلك إلى مواقف عدة نجدها فى أضعف أفلامه الأخيرة ("الآخر" و"11/9") كما فى أقواها ("إسكندرية / نيويورك").
غير أن شاهين لم يكن ينسى، فى خشم هذا كله، أن يحاكم فئة رأى أنها مسئولة إلى حد كبير عما يحدث، هى فئة المثقفين. ومن هنا رأيناه يدين هذه الفئة، وفى عدد كبير من أفلامه (مثل "باب الحديد" و"الاختيار" و"الأرض" و"عودة الابن الضال")، ما أوصله إلى ذاته ومحاكمتها، وغالبا عارية، فى سلسة أفلامه الذاتية، التى قد تحسب ذات يوم، من أفضل ما حقق شاهين وحققت السينما المصرية فى تاريخها، والتى بدأت فى شكل شديد الوضوح (لأن ذاته حضرت، أصلا، فى معظم سينماه، عمليا ومنذ فيلمه الأول كما أشرنا)، مع "إسكندرية ليه؟" لتصل إلى "إسكندرية / نيويورك" مرورا بـ "حدوتة مصرية" و"إسكندرية كمان وكمان". لكن المدهش فى هذا كله وعند هذه النقطة، هو أن شاهين عاد وربما منذ "المصير" ليتصالح، من ناحية ذاته، ومن ناحية أخرى مع المثقف، بعد إرهاصات حول هذه العودة، فى "وداعا بونابرت" و"المهاجر" ... وربما يعود هذا، ببساطة، إلى أن شاهين، إذ تفاقمت الهزائم العربية، وتبين أن ثمة فى العالم العربى – والإسلامى أيضا، لكن هذه حكاية أخرى_، ما هو أخطر: الأرهاب الذى يطول المثقف وانطلاقا من سيرورة الوعى العام، أكثر كثيرا مما يطاول السلطات القمعية وغير القمعية، غير اتجاهه، وراح يدافع عن المثقف والفكر بكل وضوح، ما كلفه غاليا كما نعرف.
من الواضح أن هذا كله، فى سياق تحليل وقراءة سينما شاهين، كان حاضرا وممكنا منذ زمن بعيد. حتى وإن كنا نعرف أن عمل الفنان، أى فنان، لا يمكن أن يعالج بصورة تدنو من الاكتمال، طالما فى إمكانه هو أن يبدع المزيد، وبالتالى يقدم مزيدا من المفاتيح لفهم أعماله، وربما حياته أيضا من خلال هذه الأعمال. ومن هنا، إذ يغيب شاهين اليوم عائدا إلى الملكوت الأعلى، بات ممكنا فى اعتقادنا، استكمال قراءة ما، لعمله، هى فى نهاية الأمر قراءة تطاول عمل شاهين، غالبا، فى ترابط هذا كله بتاريخ ورؤى من يكتب عن شاهين. ذلك أننا بتنا نعرف منذ زمن بعيد، أن كل كتابة هى فى الوقت نفسه كتابة عن المكتوب عنه، وكتابة عن الكاتب. ولئن كنا فى هذا الكتاب، قد قرأنا شاهين على ضوء سينماه، وسينما شاهين على ضوء حياة الرجل، لاشك أن ثمة عاملا آخر دخل دائما على الخط، هو حضور كاتب هذه السطور نفسه. فما هذا الكتاب سوى قراءة لعمل مبدع، جعل هو الآخر سينماه قراءة لمجتمعه وموقعه من هذا المجتمع. أنها لغة الذات أولا وأخيرا، لغة لاشك أن شاهين كان أول من يسارع إلى الموافقة عليها. وهو فعل هذا فى حياته على أية حال. ذلك أن لهذا الكتاب قصة، كان شاهين يعرفها لأنه هو، فى نهاية الأمر بطلها. فهذا الكتاب لم يوضع، بالطبع، بعد رحيل شاهين. بل استكما فقط بعد هذا الرحيل. الكتاب كان أصلا عملا تكريميا ليوسف شاهين كلفت وزارة الثقافة المصرية كاتب هذه السطور بوضعه قبل أربعة أعوام، حين كان يجرى التحضير لتكريم صاحب "الأرض" و"المصير" ضمن إطار مهرجان السينما القومية. يومها اتصل الناقد الصديق، ورئيس المهرجان، على أبو شادى، بكاتب هذه السطور ليخبره أن الوزارة بصدد تكريم شاهين وأنها اتفقت مع الأستاذ على أن يقوم إبراهيم العريس بوضع كتاب عنه. على الفور يومها شرع كاتب هذه السطور فى العمل. ولكن ما إن مضى شهر حتى أعلن شاهين أنه يفضل ألا يكرم ضمن الإطار الذى شرح له. وكان تلقائيا، أن يتوقف العمل على الكتاب. وبعد ذلك، خلال حديث بي المهندس إبراهيم المعلم، عن دار الشروق، وكاتب هذه السطور جئ لىك الكتاب، فأبدى حماسة كبرى لاستكماله ونشره. ومنذ ذك الحين، اسؤنف العمل فى الكتاب، الذى راح شاهين، بعد أن قرأ فصلا منه (حول "سينماه الذاتية")، يطالب كاتب هذه السطور بإنجازه بسرعة "لأننى أريد أن أقرأه قبل أن أموت". لكن إنجاز الكتاب تأخر لأسباب ربما كان من أهمها الرهبة أمام وضع جردة حساب لعمل لم يكن قد اكتمل بعد. أما اليوم، وقد اكتمل العمل الشاهينى، للأسف، ها هو الكتاب يكتمل فى صيغته الراهنة ... ولكن فقط كى يكون صدوره، بداية لسجال متجدد دائما حول سينما يوسف شاهين، سجال لا نعتقد أن عليه أن يكتمل أبدا. لأن الفن الكبير هو الفن الذى لا يتوقف الحديث عنه. وفن يوسف شاهين فن كبير.
                                              إبراهيم العريس
                                       بيروت آب (أغسطس) 2008
                                                       

0 comments:

إرسال تعليق

 
;