٢٥‏/٠٢‏/٢٠١٢

شخصيات وأفلام من عصر السينما

نعم كان هناك "عصر السينما". كان هذا "عصرنا" نشأنا فيه وعشناه، وشهدنا كيف كان، وأين ذهب. وآمل أن تتكفل صفحات هذا الكتاب بالإجابة على التساؤلات الخاصة بعصر السينما: معناه ومغزاه وملامحه، كيف كان، واين انتهى، ولماذا.
كان العصر الذى أقصده، فى الماضى، فى الخمسينيات والستينيات وقسط كبير من سبعينيات القرن الماضى، لكنه شحب وتضاءل فى الثماينيات، وانتهى عمليا فى التسعينات، بعد أن أصبحت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، والسينما غير السينما.
كان عصر السينماعندما كانت الأسر، من الطبقة الوسطى، تصطحب أبناءها وتذهب إلى دار السينما عصر يوم الخميس والجمعة، دون أى حرج، بل كانت رحلة الذهاب إلى السينما طقسا من الطقوس البديعة التى تستعد لها الأسرة فى مصر مثلا، بإعداد الملابس التى سترتيدها ربة الأسرة وبناتها وأبناؤها، وربما تعد الأم أيضا بعض المأكولات الخفيفة التى يمكن تناولها خلال فترة الاستراحة بين الفيلمين، فقد كانت دور العرض، خصوصا فى الأحياء وعواصم المحافظات، تعرض فيلمين، على طريقة "العرض المستمر"، أي ينتهى الفيلم الثانى فيبدأ مرة أخرى، عرض الفيلم الأول،وهكذا.
وكانت مشاهدة الأفلام فى دور العرض السينمائى، هى المتعة الأولى لدى اسر الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية، إلى جانب الاستمتاع للحفل الشهر الذى كان يبث إذاعيا، للسيدة أم كلثوم. وكان هذا الحفل يحظى فى كثير من الأحيان، بحضور الرئيس جمال عبد الناصر ومجموعة من صحبه.
كنا نعيش "عصر السينما" عندما كانت السينما إحدى الركائز الثقافية فى المجتمع، بل والأسس الاقتصادية للدولة أيضا. وكان الفيلم وسيلة وغاية فى الوقت نفسه، كان وسيلة لتوصيل فكرة ما، أو موعظة، أو حكمة أخلاقية من وراء القصة التى يرويها, وكان هدفا فى كونه وسيلة للتعبير الفنى، لبيان قدرة الممثلين على التشخيص ومنافسة ممثلى المسرح، بل وكان الكثير من الممثلين ينتقلون ما بين المسرح والسينما، ويرتفعون بالتالى بفن الأداء التمثيلى كثيرا.
كان عصر السينما عندما كانت هناك قامات فى التمثيل تتألق على الشاشة الفضية مثل حسين رياض، وعبد الوارث عسر، وسراج منير، وزكى رستم، وسليمان النجيب، ومحمود المليجى، ونجيب الريحانى، وزكى طليمات، ومحمود مرسى، وأمينة رزق، وفاتن حمامة، وشكرى سرحان، ومريم فخر الدين، وفريد شوقى، ومحسن سرحان، ويحيى شاهين، ومحمد توفيق، وسعيد ابو بكر، وعدلى كساب، وتحية كاريوكا، وشادية، وعمر الشريف، وغيرهم كثيرون .. كثيرون.
كان تعامل المخرج  وباقى العناصر الفنية مع الفيلم، اي أثناء عملية التصوير نفسها، تعامل الهواة المحبين، الذين يسعون إلى التجويد والإجادة، ينشدون استخدام كل مفردات السينما كفن وصناعة، لتجسيد العالم كما يرونه: رومانسيا بسيطا، أو واقعيا معقدا. وفى الحالتين كان الجمهور يقبل على الفيلم، يدعمه بالقروش التى كان يشترى بها تذاكر دخول السينما، وكان هناك اهتمام بعدم التنازل على مستوى الصنعة، بل بالتطلع إلى مجاراة المستوى الإحترافى للفيلم الأمريكى عندما كانت هوليوود تعيش عصرها الذهبى. وكانت محاكاة الفيلم الأمريكى فى "عصر السينما" أمرا أساسيا، ولكن هذه المحاكاة لم تكن تتمثل فى نقل القصة أو اقتباس السيناريو وتمصيره، بل فى مجاراة أسلوب الإضاءة، واستخدام الظلال والديكورات، والتلاعب بالأبيض والأسود، وكان السينمائيون يكتشفون "نجوما" يمكنهم تقيدمهم كنماذج دراميا عربية توازى نجوما آخرين اشتهروا فى السينما الأمريكية.
كانت هند رستم مثلا نموزجا عربيا لمارلين مونرو. وقد ظهرت معها فى نفس الفترة. وكان فريد شوقى معادلا عربيا لأنطونى كوين، فى حين كانت مريم فخر الدين المقابل العربى لكاترين هيبورن، وكان محسن سرحان مقابلا لهمفرى بوجارت .. وهكذا.
فى عصر السينما كانت دار العرض السينمائى هى اساس السينما كلها وجوهر سحرها. فلم تكن شاشة التلفزيون قد اصبحت ضاغية مسيطرة كما هى الآن. ولم يكن الفيديو قد ظهر أو أنتشر كما حدث فيما بعد، ولم نكن قد عرفنا بعد الاسطوانات المدمجة (دى فى دى) ومشاهدة الأفلام عن طريق الصناديق الصغيرة الموضوعة فوق المكاتب والطاولات، أى عبر أجهزة الكومبيوتر وفضاء الأنترنت.
كان الفيلم فى نظر الجميع، هو المصور على شرائط مقاس 35 مم، وليس المصور بكاميرا ديجيتال أو عن طريق تقنية الفيديو الرقمية المتقدمة كما حدث حاليا. ويعتبر شريط الفيلم "السيلولويد" الركن الأساسى فى تاريخ السينما وفى عصر السينما، وكنا نتهافت للحصول على بضعة كادرات من هذا الشريط ونحن أطفال لنرى الصور على حائط أبيض فى شرفة نتحلق فيها ليلا، أو تحت سرير فى الظلام.
كان الديكور السينمائى جانبا أساسيا من جوانب صنع الفيلم، وهو جانب يُحسب حسابه، له خبراؤه، والمختصون فى تصميمه وبنائه وتنسيق المناظر فى داخله ايضا، قبل أن تصبح البيوت والشوارع والمحلات التجارية أماكن أرخص، مع تقدم الابتكارات فى تقنيات الفيلم الخام وتقدم درجة حساسيته للضوء، والتقدم فى استخدام تقنية التسجيل المباشر للصوت.
كانت السينما فى العالم قد أصبحت فنا وصناعة وتجارة، وكان هناك حديث طويل ممتد حول أن من يسيطر على الأذرع الثلاثة للسينما، أى الإنتاج والتوزيع والعرض، يسيطر تماما على تلك الصناعة ويستطيع توجيهها. ولذلك اتجهت حكومات الدول الاشتراكية إلى احتكار العمليات الثلاث، لكنها فشلت فى احتكار الأفكار، أو توجيهها، فقد كانت طاقة التمرد لدى الفنان اقوى من أى قيود. ولعل أبرز دليل على ذلك، ما أنجزه المخرج الروسى الكبير أندريه تاركوفسكى، الذى منع فيلمه البديع "أندريه روبلييف" فى الاتحاد السوفيتى عام 1966م، وعندما اشتدت عليه وطأة النظام، هجر بلاده وعمل فى إيطاليا والسويد إلى حين وفاته حيث أخرج فيلمين من التحف الكبرى فى تاريخ السينما هما "حنين" و"القربان".
وفى مصر خلال الستينيات، شهدت السينما تطورات درامية، بعد أن اتجهت أنظار الدولة أيضا إلى ضرورة دعم الصناعة، وتشجيع إنتاج الأفلام التى لا يستطيع المال الخاص تمويلها، وهى فترة ظهر فيها الكثير من الأفلام الجيدة دون شك، لكن هذه السياسة أصبحت مثار جدل ربما حتى وقتنا هذا، فلم تكن دون مجازفات ومخاطر بل ومنزلقات. فلم يكن ممكنا أن تتيح الدولة حرية النقد فى مراحل وصفت بأنها "مصيرية"، وعرفت مواجهات عسكرية مسلحة مع إسرائيل، وهو ما استدعى أن يكون هامش حرية التعبير محدودا للغاية.
لكن الجدل والصراع كانا يدفعان العجلة إلى الأمام. وكانت التجارب السينمائية الجديدة تسعى إلى أن تصبح جزءا من التيار السينمائى الإنسانى عموما، أي أن تكون مصر فى مجال السينما جزءا من العالم، لا تنكفئ على نفسها مستندة إلى فكرة الريادة التاريخية وحدها، بل تلتحق بالعالم، سواء على مستوى السينما أو الثقافة عموما. فمصر شاركت فى مهرجان كان مثلا، من البداية، أي فى عام 1946م وامتدت مشاركتها طويلا قبل أن تتوقف.
كانت مصر، فى الخمسينيات والستينيات، تسعى إلى استكمال مشروعها "الحداثى"، وأن تنتقل لتصبح مجتمعا صناعيا إلى جانب المجتمع الزراعى الذى كان قد انتقل نت نظام رى الحياض إلى الرى الدائم، وفى هذا الإطار "الحداثى" الذى يلتحق بالعصر، ويستخدم مفردات العصر، كانت السينما كفن وصناعة، تمر بفترة ازدهار كبير قبل أن تصاب بنكسة بسبب ممارسات البعض الذين كانوا يعملون فى الحقيقة، لحساب الموزع الخارجى، ويسعون لتلبية متطلباته، حتى لو كان معنى هذا تخريب السينما المصرية من الداخل. وسنجد بين طيات هذا الكتاب مثالا واضحا على ذلك النوع من التخريب.
وعندما اشتدت وطأة الأزمة السياسية فى أعقاب هزيمة 1967م اصطبغ عصر السينما ببعض المتغيرات التى حملت الكثير من الآمال والطموحات، لمنها سرعان ما أجهضت.
فى قلب السينما، جاءت أيضا تجربة نوادى السينما، التى تعلمنا فيها كيف نتذوق الأفلام ونحللها ونناقشها ونستمتع بها. ودرات محاولات وقتذاك لجعل النقد السينمائى جزءا أصيلا من ثقافتنا، مثله مثل النقد الأدبى والمسرحى والتشكيلى، أي أنه نوع أدبى فى الكتابة، يمكننا أن نأخذه على محمل الجد، وليس مجرد مادة مكتوبة لإلهاء وتسلية القراء فى الصفحات الأخيرة من الصحف. اعتبر هذا الأمر، أي رسوخ النقد السينمائى كشكل أدبى جديد، أمرا مفروغا منه حتى نهاية السبعينيات. فماذا حدث الآن بعد أن غادرنا "عصر السينما"، وأين نحن من العالم سينمائيا، وما الذى آل إليه مصير الفيلم الفنى الطموح أمام الآلة الضخمة التى تضخ الأفلام الاستهلاكية السريعة؟
"قوقوا لي ماذا تشاهدون من أفلام، أقول لكم من انتم". يصلح هذا التساؤل بالتأكيد، للتفرقة بين عصر السينما، وعصر ما بعد عصر السينما.
ولعل من الصحيح القول إن صفحات هذا الكتاب تعتبر، على نحو ما، رحلة إلى الماضى، إلى عصر لم عد قائما، لكنها رحلة تقصد فهم الحاضر على ضوء الماضى، ومعرفة اين نضع أقدامنا حاليا، وهل من الممكن أن نستعيد النهضة، ونعود لكى نعيش الحلم من جديد، حلم السينما داخل دار السينما، وهل سيأتى وقت تعود فيه الأسرة المصرية والعربية، إلى دار السينما للاستمتاع، ثم يغادر أفرادها دار العرض وهو يتناقشون فى الفيلم الذى شاهدوه لتوهم، مدلولاته الاجتماعية، ومستواه الفنى، دون تشنج أو منادة بالمنع، والتحريم، والعقاب، كما أصبح الوضع الآن، دون حتى الذهاب لمشاهدة الأفلام؟    
هذا الأمل يظل قائما، شريطة أن تعتدل بوصلة المجتمع كله وتبدأ فى الاتجاه نحو خلق وترسيخ ثقافة أخرى جديدة، ثقافة بالمعنى الشامل لكلمة ثقافة، تواجه الثقافة الغيبية السائدة المتخلفة التى انتشرت كالوباء فى المجتمع طيلة السنوات الثلاثين الماضية، كما تواجه الثقافة الرسمية التى تميل إلى المهادنة مع التخلف، إن لم يكن التنافس معه أيضا.
بدون هذا سيظل "عصر السينما" عالما سحريا من الماضى. أحاول أن أروى منه بعض ما أعرفه فى هذا الكتاب الذى أرجو أن تصل رسالته دون حاجة منى إلى شرحها أو تبسيطها، فهى كامنة بين السطور.
ولكن ينبغى أن أشير إلى أن الكتاب يتضمن الكثير من رؤيتى الشخصية لبعض الأحداث والشخصيات التى اقتربت منها والتى لعبت دورا مهما من وجهة نظرى فى تشكيل عصر السينما كما عشته أنا على الأقل، كما أنها أحداث وشخصيات لا غنى عن التوقف أمامها فى سياق وصف أجواء العصر الذى أتناوله، مع محاولة تقديم صورة لذلك الارتباط الحتمى فى رأيى، بين السياسى والثقافى والسينمائى، والربط بين ما كان يقع من أحداث سياسية بارزة، وانعكاستها على السينما وعلى العلاقة بين الدولة والسينما، وبين المتفرج الصغير، الذى كنته فى تلك الفترة من عصر السينما، وبين أفكار كبيرة كانت تأتينا عبر الكثير من الأفلام التى عشنا معها، واصبح بوسعنا أخيرا، أن نستعيدها ونعيد اكتشافها ومشاهدتها بعد أن اصبحت متوفرة لحسن الحظ فى الأسواق العالمية.
أخيرا، أرجو أن يكون التعريف بهذه الأفلام هنا، دافعا للشباب من محبى الفن السينمائى، للعودة إليها، والحصول عليها فى نسخ من الأسطوانات المدمجة "دى فى دى" ومشاهدتها والاستمتاع بها أيضا فى ضوء ما ورد فى هذا الكتاب من معلومات عن ظروف ظهورها على خريطة السينما المصرية أو العالمية.
والله الموفق.
مقدمة كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما" للناقد أمير العمرى

0 comments:

إرسال تعليق

 
;