١٧‏/٠٣‏/٢٠١٢

انتبه .. السينما ترجع إلى الأمام

أحمد بيومى - أفلامجى
وحده الحنين من قاد الفيلم الفرنسى "الفنان" لحصد النصيب الأكبر من جوائز الأوسكار، الحنين إلى السينما الخالية من الضوضاء والمؤثرات الصوتية الصاخبة فجاء الفيلم صامتا كاشفا عن تفاصيل حياتية يومية نمر بها دون أدنى اهتمام. حنين إلى عصر السينما الخالصة الصافية فأكتفى مخرجه باللونين الأبيض والأسود معريا زيف كثير من الألوان التى تصدمنا أعيننا كل صباح. حنين إلى عصر السينما حين كان الممثلين والممثلات نجوما بحق كنجوم السماء وحين كان المنتج السينمائى بالضرورة ثقيل الوزن لا يفارقه السيجار الغليظ أينما كان.
فلم يكن مستغربا أن يحصد الفيلم الفرنسى "الفنان" خمسة من جوائز الأوسكار من بينها جائزة أفضل فيلم، ليس فقط لأن الفيلم برمته صامت بلا أدنى جملة حوار، ولا بسبب تصوير الفيلم بكامله بالأبيض والسود. فقط لأنه مغامرة فنية كبرى، ولأن الفن فى جوهره مغامرة، جذب إليه القلوب قبل العقول وأستطاع أن يثرى خيال كل عشاق الفن السابع حول العالم أجمع. 
قصة الفيلم شديدة البساطة والثراء فى آن. تبدأ الأحداث فى عام 1927.. نرى ممثل ونجم من كبار نجوم الفيلم الأمريكي الصامت يدعى جورج فالنتين، ينتقل من فيلم إلى آخر، يفرض شروطه والمنتجون في ذلك العهد يستجيبون له، فهو "معبود الجماهير". ننتقل إلى عام 1929، حينما بدأت هوليوود تتجه الى الفيلم الناطق.. الأمر الذي يقاومه بل ويرفضه فالنتين رفضا تاما، لأنه لا يعتبره فنا _كان هذا موقف شارلي شابلن لسنوات طويلة بعد دخول الصوت إلى السينما، فقد ظل يخرج الأفلام الصامتة حتى عام 1940 في فيلم "الديكتاتور العظيم"_ وربما من أشهر جمل شارلى شابلن "أن الحوارفى السينما خيانة".
ودون أن ندرى يقودنا الفيلم إلى التسأول عن ماهية الفن، والعلاقة ما بين التجارى والفنى، وهل التقنيات الجديدة فى عالم صناعة الفن تدمر ما قبلها، ونجد البطل فى حالة حيرة ما بين الأستسلام وبين الرفض والثبات على موقفه. وأثناء أفتتاح أحد افلامه يقابل فالنتين فتاة جذابة تطلق على نفسها "بيتي ميللر" تتميز بخفة الظل والقدرة على الحركة، تستغل وجوده وتظهر في عدد من الصور معه لتلفت الأنظار إليها، فهي ممثلة ثانوية تتطلع إلى النجومية في هوليوود، فنجدها فى اليوم الثانى تحتل غلاف مجلة variety وتىحاول لفت انتباه صناع الأفلام إلى أن تنجح فى الحصول على دور الكومبارس أمام بطلنا.
ويتدور الأيام، وتصبح هه الممثلة نجما صاعدا فى سماء السينما الناطقة، وبطلنا يبدأ فى بيع مقتنيات منزله، بعد أن تجاوزه العصر وأصبحت طريقته في الأداء لا تجذب جمهور السينما الجديد، وبسبب احجامه عن اقتحام مجال الفيلم الناطق لأن "الجمهور يأتي لكي يتفرج علي وليس لكي يستمع إلي". وسرعان ما تتراكم عليه الديون، ولا يظل مخلصا له سوى سائقه "كليفتون" الذي يرفض الانصراف بل ويصر لفترة على انتظاره بسيارته الفاخرة يوميا أمام منزله، وكلبه الصغير المخلص الشجاع الذي ينقذه من الموت بعد أن كاد أن يختنق مع احتراق منزله بعد أن حطم في نوبة غضب عارم، كل جوائزه ومقتنياته، ثم أشعل النار في شرائط أفلامه القديمة كلها يأسا من استعادة نجوميته. فى كل تلك التفاصيل الغنية نجد دائما شعورا بالحنين إلى مفردات عصر كامل ربما أندثرت بلا عودة.
"بيتي ميللر" لازالت تحمل فى قلبها حبا وتقديرا كبيرا، وتراه أكبر داعميها وأول من مد إليها يد العون، ونكتشف بعد ذلك أنها قامت بشراء كل مقتنيا بطلنا عندما عرضها للبيع استعدادا لردها إليها حين نتصلح الأمور وتتبدل الأحوال، ويدفعها الحب وحده إلى العودة لانتشاله الى الحياة من جديد.
الفيلم ومنذ البداية يضعنا أمام مأساة شكسبيرية _ باتت_ تقليدية، النجم العظيم الذى يتحول _رغما عنه_ إلى فقير يواجه صراعه النفسى الداخل قبل صراعه مع العالم المحيط. وفي الفيلم الكثير من المشاهد التي تحاكي ما سبق أن رأيناه في أفلام أخرى كلاسيكية شهيرة خاصة "متروبوليس" لفريتز لانج، و"المواطن كين" لأورسون ويلز، كما أن هناك بعض النغمات الموسيقية المقتبسة من الأفلام الصامتة القديمة، في إشارة تقدير وتحية إلى هذه الأفلام التي لعبت دورا في تشكيل وعينا ووعي المخرج الفرنسي.
المخرج الفرنسى ميشيل هازنافيسيوس لم يتوقف فقط عند محاكاة أفلام هوليوود الصامتة بل ابتكر الكثير من المشاهد الطريفة التي تضفي على الفيلم حياة خاصا مثل ذلك المشهد الذي يدور اثناء الحلم في عقل الشخصية الرئيسية (فالنتين) الذي يحلم بدخول الصوت إلى عالمه الصامت.. حيث يصبح لريشة وهي تسقط صوتا ضخما، فينهض من نومه مفزوعا. إلى جانب حركة كاميرا مختلفة لم يكن ممكنا أن نراها خلال مرحلة الأفلام الصامتة.
الممثل الفرنسي الكبير جان ديجاردان الذي قام بدور فالنتين لفت انتباه الجميع بحضوره القوي وقدرته على التنويع والانتقال _دون أدنى جمله حوار_ من الفرح إلى الحزن مرورا بالغضب والدهشة والحب ويأس من يحاول الأنتحار.
التحدى الأكبر فى فيلم "الفنان" كان القدرة على الأبتكار والخيال وتعقب التفاصيل الصغير التى نتوه عنها جميعا أثناء الركض اليومى لمتابعة أمور الحياة الصاخبة. ولعل أغلب المشاهدين، عدا المتخصصين، لم تسنح لهم الفرصة يوما لمشاهدة فيلم صامت، ولم يكن يتوقع أحدا فلى عصر تقنية الـ 3d والحديث عن تقنيات جديدة أكثر تطورا ان نشاهد فيلما، بالأبيض والأسود وبلا جملة حوار واحد لقرابة الساعتين داخل دور العرض وليس فى نوادى السينما المغلقة أو من باب السينما التجريبية.
الناقد الكبير أمير العمرى كتب قبل اشهر طويلة عن الفيلم أثناء عرضه فى فعاليات مهرجان كان السينمائى قائلا: "أما أفضل الأفلام من وجهة نظري من حيث التعبير السينمائي والإخلاص لفن السينما في أصله وأساسه الأولى (وهو رواية قصة بطريقة جذابة مبتكرة) فهو الفيلم الفرنسي "الفنان". فهذا فيلم كامل متكامل لا يمكنك سوى أن يستولي تماما على المشاعر والوجدان ولا أبالغ إذا ما قلت إنه بالنسبة لي "التحفة" الوحيدة في المسابقة حتى الآن. لكني مع ذلك أستبعد أن تمنحه لجنة التحكيم السعفة الذهبية كونه فيلما صامتا (يحاكي السينما الصامتة ويستعيد تقاليدها حرفيا)، ومصور بالابيض والأسود، ورغم كونه من الانتاج الفرنسي إلا أنه ناطق بالانجليزية، وأقول ناطق تجاوزا، فليس في الفيلم كلام بل عناوين مكتوبة تظهر على الشاشة من وقت إلى آخر على نحو اللوحات التي كانت تظهر في الأفلام الصامتة"، وبالفعل لم يحصد الفيلم سعفة كان الذهبية وعائد بعد اشهر ليستحوذ على نصيب الأسد من جوائز الأوسكار. وبعد نيل الفيلم لجوائز الأوسكار كتب أمير العمرى على موقعه الشخصى قائلا: أخيرا.. فيلم "الفنان" عمل شجاع أيضا لأنه يهجر الصوت المجسم ويدير ظهره لتقنية الفيلم ثلاثي الأبعاد، والشاشة العريضة، لكي يعود إلى عصر البراءة الاول.. عصر السينما.
من جانبها ترها الناقدة السينمائية ماجدة موريس أن فيلم "الفنان" تجربة فنية استثناية قد تكون غير قابلة للتكرار فى العالم، وتقول: "الفيلم مردة الأساسى شخصية المخرج الفرنسي ميشيل هازنافيسيوس المعجب للغاية بالسينما الأمريكية القديمة، وهذا واضح من أعماله السابقة عندما قدم بعض اعمال الجاسوسية على النمط الأمريكى ولكن بأسلوب المحاكاة الساخرة لأفلام الجاسوسية القديمة أيضا "من الستينيات خاصة أفلام جيمس بوند التي قام ببطولتها شون كونري" والتي تحمل عنوان "أوه إس إس 117" OSS117. وقد اختار هذه المرة أن يجعل فيلمه يدور على نمط الأفلام الأمريكية الصامتة، وقد صوره بالألوان ثم حوله إلى الأبيض والأسود".
وتضيف: الأكثر أهمية فى "الفنان" هو حجم الإبداع المقدم من قبل الكاتب والمخرج، والصراع الخفى بين الفن الخالص الأصيل وعصر التكولوجيا وخاصة من التقدم المستمر فى لغات التعبير السينمائى إلى جانب النبش فى كثير من القيم التى ربما باتت مفقودة هذه الأيام ومن أهمها قيمة الحب والأعتراف بالجميل.
وتستطرد قائلة: على المستوى المصرى فالبطبع نحن لم نشهد فيلما صامتا بهذا المفهوم المقصود به محاكاة السينما الصامتة القديمة، بل شهدنا بعض التجارب الصامتة حيث يستخدم الصمت كوسيلة تعبير وليس على شاكلة فيلم "الفنان"، ومن المعروف أنه كلما تم اختزال الحوار داخل الفيلم زادت قيمته الفنية".
                                       نُشر فى أخبار النجوم 15-3-2012

0 comments:

إرسال تعليق

 
;