٠٩‏/١٢‏/٢٠١١

حوار مع سائق الميكروباص

نشر فى موقع البيت الكبير خلال يوم من أيام شهر مايو 2011 

لم اهتم كثيرا بنظرة سائق الميكروباص الذى يقلنى من مدينة أكتوبر إلى وسط العاصمة، فقد لاحظت النظرة الطويلة التى سلطتها على عنوان الكتاب الذى أحمله، "أنت تفكر .. إذن أنت كافر". وكونى جاره الوحيد لمدة ساعة ونصف كاملة حيث حرصت على مضاعفة الأجرة حتى لا يشاركنى شخص آخر المقعد _الذى لا يتسع فى الأصل سوى لشخص واحد_، فتح هو باب الحوار بعد أن أخفض من صوت الشخص الذى ينتحب على الدنيا والزمان، وقال: هو الكتاب ده عن ايه يا باشا؟". نزعت عن أذنى صوت فيروز _الحل الوحيد للمحور وميدان لبنان_ وأجبته ...
الكتاب تأليف أردنية تُدعى سلوى اللوبانى ويتحدث فى الأساس عن الهموم التى تحيط بالمبدع العربى، وحاولت فيه أن ترصد علاقة المبدع بمحيطه سواء سياسيا أو أقتصاديا أو أجتماعيا، وكيف أن مصير الكثير من المبدعين كان المرض أو الأنتحار أو القتل. والتجاهل المتعمد الذى تقوم به الدولة فى حياته ومن ثم تكريمه بعد وفاته، والمعاناة التى لاقاها كثير منهم فى سبيل مبادئهم وكلمتهم خلف القضبان. نظر إلى السائق نظرة طويلة مما دفعنى لمراقبة الطريق بدلا منه وقال: "انت قصدك يعنى صلاح جاهين؟، بس الدولة مالها وماله، مش هو مات بعد النكسة"، اعتدلت فى الكرسى وقلت: "جاهين تأثر كثيرا بالنكسة، لكنه فى الحقيقة مات عام 1986، لكن بالطبع جاهين واحد من المبدعين الذين تعرضوا لأزمات نفسية حادة بسبب محيطهم، وليس هو فقط بل أيضا ناجى العلى الذى هاجر مع عائلته من فلسطين عام 1948، وقتل على يد شاب مجهول فى لندن، أو الشاعر قاسم جبارة الذى أطلق على نفسه الرصاص ليتخلص من حياته. وسألته هل تعرف ما آخر ما كتب قاسم قبل وفاته. نظر إلى نظرة صامتة. فتحت الكتاب وقلبت أوراقه سريعا وقرأت "قبل وفاته _قاسم_ ترك رسالة لصديقه الكاتب "سعيد فرحان" رسالة مشوشة بخط مرتبك "كان ينبغى أن لا تحدث كل هذه المآسى لو أننى لم أولد يوماُ.. أو على الأقل لو لم تكن هناك لوثة فى الرأس اسمها الحواس .. لماذا كان ينبغى أن أكون شاعراً، ألكى أموت بطريقه أخرى ولكننا نتساوى جميعا فى القبر .. أبناء الأغنياء وأبناء الفقراء .. المشردون والمرتاحون فى قصورهم" قاطعنى السائق عندما وجه شتيمة قاسية لوالدة صاحب سيارة مرت من جانبه، وأعتدل _بعد سبه مرة أخرى_ وقال بنبرة المتيقن بأن من أمامه يعانى مشكلة عقلية وقال: "علشان كده الكتاب أسمه أنت تفكر .. إذن أنت كافر، الكتاب ده "لامم" كل المثقفين التى انتحروا وماتوا وهم كفرة ..." قاطعته مع نبره صوت بدأت فى العلو "لا يا أسطى، الكتاب لا يتحدث من هذا المنظور، الكتاب يفترض فى المثقف أن يكون رائدا وقائدا، ويتناول فقدان المبدع العربي لمكانته التى تليق به، فهو يعانى من الرقيب الذى خلخل الموازين فكبل إبداعه ولجم حريته فى التعبير عن آرائه. إلى جانب هذا فالكتاب يطرح سؤال غاية فى الخطورة "هل صحيح أن الدين والإبداع ضدان لا يلتقيان؟". أغلق السائق الكاست، وقام بالأستغفار وقال: "يابيه انا مش بحب الإخوان ولا السلفين، انا كل اللى عايزه أطلع بلقمة عيش حلوة، انا مش عايز حد يأكلنى خُطب، وإن كان على الدين ربنا يهدينا أجمعين، ووالله يا بيه انا كل يوم الصبح بشغل القرآن الكريم فى أول مشوار، وبعد كده بسمع أغانى، ومن كام يوم ركب زبون طويل ولابس جلابية قصيرة وقال أيه أن الأغانى حرام، فضلت أناقشه لحد نادى الزمالك بس والله ما قفلت الكاسيت، مافيش حد هيمشى كلمته جوه الميكروباص غيرى".
نظرت إليه بتبسم واجبته هذا تقريبا محور من محاور الكتاب، فرد سريعا فى دعابة: "محور ولا دائرى" وخرجت الضحكات من جميع الراكبين الذى فؤجت أنهم قرروا أن يستمعوا إلى حوارى مع السائق. وقبل أن أكمل له حديثى فؤجت به يطلق شتيمة أخرى ويوقف الميكروباص ويوجه خطابه للركاب قائلا "الجاز خلص".

0 comments:

إرسال تعليق

 
;