٢٢‏/١٢‏/٢٠١١

منير الثورة .. الدم كله حرام


إن كنت ممن مروا فى ميدان التحرير طوال الـ 18 يوما حتى رحيل المخلوع، فلا شك قد لمحت مجموعة من الشباب يفترشون الأرض فى حلقة دائرية وينشدون إحدى أغانيه. وإن كنت من محبيه، لا تنكر دموعك التى انسالت، فى ليلة مقمرة، وانت جالس وحيدا تستمع إليه وهو يصرخ "مانرضاش يخاصم القمر سماه". ولو سمعت صديقا يتحدث عن نيته للذهاب إلى الملك، لن تندهش، لقبه الأشهر، ومرجعه إلى مسرحية قدمها فى آواخر الثمانينيات حملت أسم "الملك هو الملك" وغنى وقتها موال الصبر وقال "لسه الخيانة سايرة فى الأفلاك". ابن النيل لقبه الآخر، وللنيل غنى "بيحب صوت الناس وغُنى البنات بالليل .. بيكره الحراس لما تدوس بالخيل". وفى حال وقوعك فى الحب مرة _أو أكثر_ ربما أهديت حبيبتك نشيده العاطفى "حبيبتى يا حبيبتى .. غصب عنى مش بخاطرى .. ياللي ساكنه فى خواطرى"، واكتشفت بعد مرور الأيام أنه ينشد لوطنه وحبه الوحيد.

الحلم
الحديث عن منير قد يخلو من أي منطق زمنى؛ لكن البداية حملت البشارة. الفتى الأسمر النحيل، القادم من النوبة، المتشبع بصمت الوادى، حين كان الغناء هو السبيل لكسر هذا الصمت، يهاجر إلى القاهرة بعد أن تُغرق بحيرة ناصر قرى النوبة وتُهجر أهلها. قصة عاشها منير، وعاشها مئات الآلآف غيره ممن اضطروا إلى الهجرة _داخليا وخارجيا_ سواء كانت بحيرة ناصر السبب أو غيرها. فهل كانت الصدفة وحدها كفيلة بإدراج الغربة فى كلمات ألبومه الأول عام 1977؟. الألبوم الذى حمل أسم "علمونى عينكى" جاء بـ 10 أغنيات حملت جميعها مفردات الغربة والعذاب والحنين إلى الأم / الأرض، "علمونى عنيكى أسافر .. علمونى أفضل مهاجر"، "أمانة يا بحر تستلم الأمانة .. أحبابنا يا بحر فى عيونك أمانة"، "قول للغريب حضنك هنا"، "فى عنيكى غربة وغرابة"، "دنيا رايحة ودنيا جاية"، "يا عذاب النفس .. واخدنى لفين"، "آه يا بلاد يا غريبة .. عدوة ولا حبيبة"، "الرزق على الله"، وختم منير ألبومه الأول قائلا: "مسكينة حبيبتى السمراء .. دى أميرة وطاهرة وصابرة .. دوامة الدنيا خدتنى .. ورجعت أقول يا أما". تلك الكلمات، التى كتبها عبد الرحيم منصور ولحنها أحمد منيب وهانى شنودة _وهؤلاء من كان لهم دور رئيس فى تشكيل شخصية منير الفنية والثقافية_ كلمات وألحان وموسيقى تجاوز بها سنه الحقيقى، وفاجأة الجميع ولفت أنظار المثقفين والصحفيين، وإلى جانب الكلمة لا يجب أن نغفل مظهره الجديد، المتخلى عن تقاليد المطربين فى تلك الحقبة الزمنية، وبخاصه شعره الفوضوى وطريقه إمساكه بالميكروفون.
والمتتبع لمشوار منير يلحظ غياب نبرة الشعور بالغربة بعد ألبومه الأول، ربما البدء فى تبنى وجهة نظر أخرى تفيد بأن كل شبر من مصر أرضه ووطنه وعنوانه، فتجده بعد عدة أعوام من مكوثه فى القاهرة وتحديدا عام 1981 فى ألبومه "شبابيك" يقول "الكون كله بيدور .. وإحنا وياه بندور .. اليوم بحر نعديه .. ع اللي إحنا بنحلم بيه"، وبعدها بسنوات يقدم "تعالى نلضم اسامينا"، ذاكرا ومذكرا، كل محافظات مصر، بتنوعهم وتكاملهم الثقافى. ويعلن على الملئ أن عنوان وبيته ومسكنه ووطنه هو الشارع "الشعب حبيبى وشريانى .. اهدانى بطاقة شخصية .. الأسم الكامل إنسان .. الشعب الطيب والديا".

الطفل
حتى عندما يقدم منير عملا فنيا للطفل، فتجده يزرع جينات المقاومة والعناد والحلم فى قلب كل جنين، فربما جيل بالكامل أعتاد الإفطار فى رمضان أمام التلفزيون ليس لشئ سوى الإستماع لصوت منير وهو يغنى للطفل المصرى الأسمر الجميل بكار..
من صغره وصغر سنه عارف معنى أنه
من قلبه وروحه مصرى .. والنيل جواه بيسرى
تاريخ أرضه وبلاده .. بيجرى جوه دمه
***
شمس بلادك وجدودك بتسمى على حواليك
شمس بلادك وجدودك بتبوس يا صغيرى إيديك
الكون مفتوح قدامك ابدر جواه احلامك
هات رشتك هات ألوانك .. وأرسم ع الأرض مكانك
وربما الشاخص بنظره بعيدا عن السطح، يجد علاقة بين تلك الأغنية التى تربى عليها جيلا بالكامل، ونفس الجيل _بعد سنوات_ الذى ملأ ميدادين مصر مرددا "خبز .. حرية .. عدالة إجتماعية"، هل تلك الأغنية البسيطة _التى بثها التلفزيون الرسمى للنظام_ كان لها دورا؟. هل عندما غنى منير أغنية على لسان طفل صغير مخاطبا جدوه قائلا: "جدو احكيلي حكاية سعيدة فيها ألغاز ومغامرة مفيدة .. مش معزاية وديب وعصيدة .. حدوتة أهضم بيها عشايا .. عايز حاجة عن الصواريخ أو معلومة عن المريخ .. مش شيتا وطرزان وأميرة راح تجرى وريا"، هل كان يحرض الطفل الصغير على العصيان؟، هل كان يمرر رسالة يعلم أن الزمن كفيل بكشف ألغازها وأسرارها واختمارها مع مرور الأيام لتحقق الغاية والمنشود.

المُحرض
لا يخلو حوار صحفى أو تلفزيونى مع محمد منير إلا ويأتى الحديث عن التحريض، من قبل الثورة ومن بعدها، ودائما ما يؤكد أن دوره بعيد كل البعد عن التعليق على الأحداث، بل التمهيد والتنوير والتحريض. "ليه تسكتى زمن .. اتكلمى، ليه تدفعى وحدك التمن"، "اتحدى لياليك يا غروب"، "طول عمر العسكر عسكر .. بس الناس كانت ناس"، "قيدى النور يا بهية .. كل العسكر ........"، "ألف لا ولا ولا .. على دمعة في عيونك أو آه"، "اتكلموا"، "انا لسه قادر فى الحزن افرح"، "لو بطلنا نحلم نموت"، "قلب الوطن مجروح"، "اسكن بيوت الفرح آه ممكن .. اسكن بيوت الحزن لايمكن"، "قلبى برج حمام .. هج الحمام منه". منير الذى غنى "مين يقص بإيده الورد .. يجز بقصد جناح عصفور" لم يكن مستغربا بعد ساعات من إنطلاق الشرارة الأولى لثورة 25 يناير _غير المسبوقة فى تاريخ الإنسانية_ أن تجد أغنية جديدة معبرة لمنير فى قلبي الميدان، والأشد أهمية أنها لم تأتى تعليقا على الحدث بل كانت جاهزة قبل قيام الثورة، مثلها كمثل كل حبات أعماله التحريضية.
فى مشوار منير التحريضى محطات شديدة الخصوصية، من بينها تحريضه الصوفى الرائعى فى ألبوم "مدد يا رسول الله"، حين قال منير منبها ومحذرا "الدم كله سواء .. حرام بأمر الله". كذلك يفكر منير، يستبق الأحداث ويغنى للإنسانية، وأسلوبه هذا خير حافظ لفنه على مر العصور وتغير الأمزجة، منير محرض على الحب والسلام وحقن الدماء.
ولم ينسى منير القضية الأهم، فلسطين، فوضعها نصب عينه قبل سنوات بعيدة بُعد مشواره الغنائى نفسه، فتجده يقول "واحنا بنغنى فى كل مكان أغانى الشعب وثوراه .. وأصغر طفلة فى فلسطين شاله بالكف حجارة .. وغايتنا نعمر ليكو البيت يالعمارة العمارة". منير خلال مشواره _ومنذ البداية_ تجاوز عن الخاص الضيق وانطلق إلى البراح الفضفاض. فغنى للإنسانية كلها، حتى أن الجميع يعلم فى بعض شوارع أوربا يتم ترجمة أغانى منير وتوزع على محبيه وعاشقى فنه.

حدوتة مصرية
وربما من أهم محطات منير التحريضية على الإطلاق مشواره الخاص مع الراحل - الباقى يوسف شاهين، فمنير كان حنجرته، ولعله منير هو المطر الوحيد الذى يقدم أغنية ضمن أحداث فيلم، وبعد سنوات تصبح الأغنية أشهر من الفيلم نفسه، وتتجاوز لتصبح ضمير أمة وذاكرة وطن.
"ما نرضاش يخاصم القمر السما .. ما نرضاش .. تدوس البشر بعضها .. ما نرضاش .. يموت جوه قلبي نداء .. ما نرضاش .. تهاجر الجذور أرضها .. ما نرضاش.. قلبي جوا يغني واجراس تدق لصرخة ميلاد .. تموت حته مني الاجراس بتعلن نهاية بشر من العباد .. دي الحكمة قتلتني وحيتني وخلتني أغوص في قلب السر .. قلب الكون قبل الطوفان ما ييجي خلتني أخاف عليك يا مصر .. واحكيلك على المكنون .. مين العاقل فينا مين المجنون .. مين الي مدبوح من الألم .. مين اللي ظالم فينا مين مظلوم .. مين اللي ما يعرفش غير كلمة نعم .. مين اللي محنيلك خضار الفلاحين غلابة .. مين اللي محنيلك عمار عمالك الطيابة .. مين اللي ببيع الضمير مين يشتري مين يشتري بيه الدمار .. مين هو صاحب المسألة والمشكلة والحكاية والقلم .. رأيت كل شيء وتعبت على الحقيقة .. قابلت في الطريق عيون كتيرة بريئة .. أعرف بشر عرفوني لأ لأ ما عرفونيش .. قبلوني وقبلتهم .. بمد ايدي لأ طب ليه ما تقبلنيش .. لا يهمني اسمك لا يهمني عنوانك لا يهمني لونك ولا ولادك ومكانك .. يهمني الانسان ولو ما لوش عنوان .. يا ناس يا ناس هي دي الحدوته .. حدوته مصرية".
ليست مجرد كلمات، أو غنوة عابرة بل نشيد وطنى شعبى تحريضى فى حب الوطن وفى رفض بيع الضمير، خطاب تحريضى ضد التمييز والتفرقة على أساس العنوان واللون الحسب والنسب، ضمير شعب يدرك أن أطفال الشوارع "ولو مالوش عنوان" جزء من الوطن، ومسئولين منه وإن أخطائوا.
وعندما يطرب منير فى إحدى حفلاته أغنية "على صوتك بالغنا" أمام عشرات الآلآف، يدركون جميعا _ومن خلفهم ملايين_ أنهم يخاطبون المستقبل والحلم_وأحيانا_ الخوف والكابوس. "ولو فى يوم راح تنكسر لازم تقوم .. واقف كما .. التخل باصص للسما"، الإعلاء من قيم التحدى والصمود صفى غالبة فى بورتريهات منير الغناية، فهو _كما نشعر_ صوت الشارع المصرى ونبضه. وعندما يقدم مع شاهين فى نفس الفيلم أغنية أخرى، لا تقل عن الشابقة ويقول" يا عشاق الحياة .. جمر الهواء جوه القلوب والع .. لو غاب قمر .. مليون قمر طالع"، ويقتل فى الفيلم بعدها بحجة أن الغناء حرام.
"يبقى المصير فى اليد" رسالة من منير إلى العالم أجمعين، رسالة ليختار كل إنسان مصيره، تماما كما أختار منير. الملك الذى قرر ألا يموت، وأن يظل حاضرا دائما فى ضمير كل من استمع إلى فنه.

                                              نشر فى أخبار النجوم 21-12-2011

0 comments:

إرسال تعليق

 
;