١٦‏/١٢‏/٢٠١١

مقام سيدى صفار


أحمد بيومى
ما من بناء فى القاهرة القديمة إلا وتروى حوله الحكايات، وتجد أضرحة لمشايخ وأولياء مجهولين، اسم كل منهم سيدى الأربعين، لا يعرف أحد على وجه التحديد من هم، ومن أين جاءوا. وبعد تتبع عددا من الكتب المتخصصة اهتديت إلى تفسير مفادة أن أسطورة إيزيس وأوزوريس تقول أن إله الشر ست قتل أوزوريس ومزق جسده إلى أربعين قطعة، دفن كل منها فى منطقة من الوادى، وأن إيزيس راحت تبكى دامعة، وهى تحاول جمع تلك الأجزاء، ومن دموعها فاض النيل ومازال يفيض، الأسطورة القديمة بقيت فى الضمير، وعبرت عن نفسها فى أزقة المدينة الكبيرة وحواريها، المدينة التى ورثت كل المدن وحكايات بلا حد.
وكما انتقلت هذه الأسطورة إلى ضمير العقل الجمعى المصرى، ترسخت فى قلب الروائى أسامة صفار فى روايته "مقام الرمال"، وتماما كما عشقت المدينة عشق هو الحكايات، غوى صفار سرد الحواديت التى تحول بعضها _ربما_ إلى أساطير. الأسطورة الأولى تتعلق بشخصه، فتجده يقول فى السطور الأولى من عمله الأدبى رفيع المقام: "ربما لم يحدث أن عشت هذه الحياة، أو ولدت من الأصل، أو ربما ولدت وتوفانى الله بعدها بدقائق، وظللت حزنا كبيرا فى قلب والدى، يتجلى على صورتى؛ التى لا أزعم أنى رأيتها؛ لكن الآخرين نقلوها لى". يتخلى صفار _منذ البداية_ عن أى قارئ عابر غره صغر حجم النص الأدبى ويظن أنها رواية سابقة التجهيز سهلة المضغ. العمل يستهدف _فى الأساس_ قارئ يشارك الكاتب الحكى ورسم التفاصيل ومد الخطوط على استقامتها، كل حسب ما يرى.

ولأن فى البدء كان الشعر، كان أسامه شاعرا. ليس فقط بسبب طرحه الأدبى الأول فى هيئة ديوان شعرى حمل أسم "مشهد ليلى"، لكن بسبب مقامه الجديد، فتجده يقول: "عينان واسعتان تطلان من خلف نقاب أسود يصنع بياضهما مع سوادهما، والعباءة السوداء التى تغطى صاحبتها بالكامل، مشهدا مخيفا .. قالت: كيف حالك أيها المجنون. لم أضحك .. لامس الصوت أقصى نقطة فى الذاكرة؛ ومس بكارة الأسئلة .. غادة؛ قصتى الأخيرة". خصوصوية لغوية فريدة تحملها "مقام الرمال"، ما بين الشعر والنثر، ربما لغة الحلم.
"مقام الرمال" الصادرة عن دار روافد، نص أدبى قرر كاتبه أن لا يموت، وأن يظل مقامه مرحبا بمريديه الذاكرين الداعين إلى حب الحياة، وحب الذكريات والتفاصيل. "مقام الرمال" عمل يستحق أن يضاف إلى المكتبة، ولا أملك أدنى شك فى لفت الأنظار إليه مع مرور الأيام وتبدل الأحوال.

                                                         نشر فى أخبار النجوم (15-12-2011)

0 comments:

إرسال تعليق

 
;