(كتبت هذا المقال ليلة مذبحة ماسبيرو)
أحمد بيومى - أفلامجى
لا أعرف إن كان الأمر فقط من قبيل الصدفة أم أن القدر أختار أن يلعب معى إحدى ألاعيبه المفضلة. فبعد ليلة عصيبة على كل مصرى داخل وخارج الحدود، ومفارقة ما يقارب من 24 أخ لدنيانا، وبعد أن خاصمنى النوم وجدت نفسى ممسكا بالريموت كنترول محاولا الفرار من القنوات الإخبارية وبقايا برامج التوك شو. أصطدمت بفيلم "إسكندرية نيويورك" الذى أخرجه المصرى السكندرى الراحل الباقى يوسف شاهين. ابتسمت للقدر وقررت الأستسلام والدخول إلى عالم جو لعلى أكتشف المزيد من أسراره التى دفنها فى أفلامه ولازالت تستقبل المستكشفين المغامرين بصدر رحب.
حظى الرائع وضعنى على أعتاب مشهد حيث يقف معلم الأبن راقص الباليه بشعره الأبيض الغزير موجها خطابه إلى الأبن الى أكتشف أبا عربيا مسلما ويرفضه. ودار المونولوج على لسان المعلم ..
انت راجل انت؟ انت ابن راجل إسكندرانى؟! مش ممكن ..
إسكندرية .. (يجلس على البيانو ويلعب نغمات زورونى كل سنة مرة)
يواصل: نيويورك نفسها كانت تتمنى تبقى على مستوى إسكندرية .. فى الثقافة، فى الحب، فى التسامح. انت عارف إنى يهودى وعشت واتولدت هناك، أيام ماكانوا اليهود مضطهدين فى أوربا، كانوا اليهود فى مصر وفى إسكندرية بالذات عايشين فى منتهى الأمان. ايوا .. انا أخويا عاش هناك ومات واندفن هناك .. ومئات من أصدقاءه المصريين مشيوا فى جنازته.
يحاول الخروج من باب الشقة ويصرخ: دى آخر مرة تشوفنى فيها لحد ماربنا ياخدنى ويريحنى من العجرفة بتاعكوا دى .. ما تتكلمش معايا خالص، لو لسه فى كلام بينا يبقى تروح تتفرج على أفلام يحيى، تعرفه أكتر، وصدقنى أنت الكسبان.
انتهى المشهد، وأستقبلت رسالة شاهين التى ارسلها لى من حيث يجلس الآن. دون شعارات ودون صخب وزعيق ومزايدات ومهاترات. شاهين ابن الإسكندرية الذى قال فى نفس الفيلم فى مرحلة عمرية مختلفة على لسان بطلة محمود حميدة: "اقدملكم 3 من زمايلى كانوا بيدرسوا معايا فى فيكتوريا كولدج. فكرى اسبيريلاس، مسيحى أرسوذوكذى أرمنى. محمد على نيازى، طبعا مسلم. فريجن ألبرت، وأخته كانت أول حب فى حياتى وطبعا كانت يهودية زيه. كنت عايز اتجوزها بس أهلى رفضوا مش عشان هى يهودية بس عشان عكرى كان وقتها 12 سنة ... كان عندنا فى إسكندرية 300 ألف يهودى وأكتر من 12 جنسية، كلنا كنا عايشين مع بعض، ولما كنا بنقابل بنت حلوة ماكناش بنسألها بتصلى ازاى؟!".
بمنتهى البساطة كشف شاهين عن مصر التى لم تكن تعرف التصنيفات الطائفية او العرقية، والمتابع لإنتاج السينما فى ذلك الوقت سيدرك أن كل التصنيف الذى كان فى تلك الفترة كانت تصنيفا فكريا .. ليبرالى، يمينى، يسارى، إشتراكى، شيوعى وهكذا. شاهين الذى عاصر الزمنين، وضع يده على الجرح وتنبأ بالقادم وحذر منه. ولم يقتصر ذلك على عمل أو اثنين من أعمال شاهين بل اغلب أعمال، على سبيل المثال فيلم "صلاح الدين الأيوبى" عندما تكتشف لويزا الطيبة بالمصادفة أن الرجل الذى أصاب كيوبيد قلبه بحبها والذى يدافع عن القدس إلى جانب صلاح دين يحمل أسم عيسى العوام. فالديانة لا تنطبع على الوجوه أو على العادات والتقاليد أو حتى اللهجات.
انتهيت من فيلم شاهين وقررت الأستمراى فى اللعبة التى بدأتها دون دراية، فأخرجت أورقا قديمة كنت قد دونت عليها بعض الملاحظات وتوقفت عند عدة نقاط تتلامس من اللعبة. وجدت فى إحدى هذه القصاصات مقالا _لم يجد سبيله للنشر حتى الآن_ يتحدث عن فيلم "فى بيتنا رجل" من إخراج الكبير هنرى بركات، وكنت أتحدث عن مقدرة هذا الفيلم فى تصوير تفاصيل خاصة بشهر رمضان يشترك فيها كل المصرين، ففى ذلك الوقت كان الشهر الكريم بمثابة شهر المصريين أجمعين وليس فقط شهر المسلمين. صمت المغرب، هروب إبراهيم وقت إنشغال العساكر فى الإفطار، اللمة الأسرية على مائدة الطعام. الحجة الواهية للأخت الصغيرة لطرد الخادمة بحجة أنها تغنى فى الشهر الكريم. وأعتقد أن هذا الفيلم ربما الأفضل فى تاريخ السينما المصرية من حيث تجسيد الحالة الرمضانية على الأسرة المصرية، والجدير بالملاحظة أن هذا المخرج هو مخرج قبطى مسيحى. ومع هذا فهو أستطاع بأدواته وإحساسه ومعايشته ونقل كافة التفاصيل ليس بإعتباره الدينى وإنماء بإنتماءه إلى مصر حيث عاش ومات.
تابعت التقليب فى الورقات والدفاتر، وتذكرت على الفور الشخصية التى جسدها مصطفى متولى فى فيلم "الإرهابى"، وتحديدا عندما يظن المتطرف الدينى "عادل إمام" أن متولى يماثله فى الفكر والإعتقاد لأنه يملك تلفازا لكن زوجته لا تحب تشغيله لأنه يعرض بدع ومساخر، بل ويفكر فى ضمه إلى الحركة الإرهابية التى ينتمى إليها. وبعد أن يكتشف الأمر، وأثناء مشاهدتهم لإحدى مباريات كرة القدم التى يكون فيها المنتخب القومى طرفا، نجدهم مرتمين فى أحضان بعضهم فرحا وتهليلا بالأنتصار. ووحيد حامد كاتب الفيلم، انتصر فى النهاية إلى حب الحياة وإلى حتمية التعايش دون النظر إلى أى أعتبارات طائفية. وهذا المنهج هو السائد فى كل الأفلام التى تتناول مسائل التطرف الدينى والفكرى الذى يصل إلى حافة الإرهاب.
والسينما المصرية، بإعتبارها مرآة صادقة إلى أبعد حد ودليل تأريخى، نجدها مليئة بمئات المواقف والمشاهد والشخصيات، أمام الكاميرا وخلفها تصب جميعا فى جانب الوحدة والتسامح وحب الحياة. وعلى سبيل المثال، فى فيلم "أم العروسة" وهو فيلم محبوب من الجميع وشاهدناه جميعا عشرات المرات. نجد لفتة صغيرة قد لا يكون الكثيرون قد لاحظوها. عندما يضطر عماد حمدى لأخذ بعض النقود من عهدته الخاصة، ويجد البوليس أسفل منزلة ويصاب بالرعب على مستقبل أسرته وأبناءه. نرى صديقه _المسيحى_ يسدد عنه دينه ويدعوه للذهاب والأحتفال بزواج أبنته. مشهد عابر، لكنه يحمل رسائل بالجملة، وحياة كاملة كنا نعيشها دون النظر إلى ديانة الآخر وإعتقاده.
وأرغب فى الإشارة أن أن هناك افلاما كثيرة تناولت ملف الوحدة الوطنية بشكل مباشر مثل "حسن ومرقص" الذى لعب بطولته عادل إمام وعمرو الشريف، لكن مثل هذه الأفلام التى صُممت خصيصا لا تترك نفس الأثر الذى يتركه فيلم آخر يتناول القضية بإعتبارها إستثناء قد لا ندركه سوى بالصدفة. والدليل فيلم مثل "أمريكا شيكا بيكا" بطولة محمد فؤاد، وهو فيلم تناول قرار مجموعة من المصريين السفر والهجرة إلى أرض الأحلام أمريكا حيث الثراء السريع. وبعد سلسلة من الأحداث وموت أحد أفراد المجموعة ودفنه يصلى عليه أصدقائه لنجد عماد رشاد يصلى كمسيحى ويدعو لعم غمراوى بالرحمة. ويسأله فؤاد : "انت مسيحى؟" ويضمه فى مشهد رائع يبرهن على الوحدة الصادقة النابعة من وجدان الشخصيات وليست الشعارات.
ووسط عشرات وعشرات الملاحظات الى وجدتها فى أوراقى المتزاحمة فى درج قديم، رأيت ملاحظة من كتاب كنت قرأته قبل فترة يحمل أسم "الجبتانا .. أسفار التكوين المصرية" رواه مانيتون السمنودى وحققه على على الألفى وجاء فيه: "أن كثرة تعاقب الأديان على المصريين قد علمتهم التسامح، وأن هناك طرقا كثيرة تؤدى إلى الله".
نشر فى أخبار النجوم 13-10-2011